السؤال
أعرف جارة كثيرة الشكوى فهل يجوز الشكوى للمخلوق؟ وكثرة البكاء مع الأنين؟ وضرب النفس؟ ولكم جزيل الشكر.
أعرف جارة كثيرة الشكوى فهل يجوز الشكوى للمخلوق؟ وكثرة البكاء مع الأنين؟ وضرب النفس؟ ولكم جزيل الشكر.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأفضل للمخلوق أن لا يشكو إلا إلى الله تعالى, كما قال يعقوب عليه السلام: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون {يوسف:86}
وقال تعالى في شأن خوله بنت ثعلبة - رضي الله عنها -: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله {المجادلة1 } وأخبر عن أيوب - عليه الصلاة والسلام -: وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين {الأنبياء:83}
ولا ينبغي أن يشكو للمخلوق شيئا من الأحداث الحاصلة بقدر الله، فإن الله أرحم بالخلق من الخلق, وأقدر على إزالة ما بهم من الضر, ويمنع التشكي الذي يدل على التضجر من قضاء الله وتسخط القدر، فعدم الرضى بالقدر حرام، وقد قال ابن القيم في الفوائد: الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه؛ فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم، ورأى بعض السلف رجلا يشكو إلى رجل فاقته وضرورته، فقال: يا هذا, والله ما زدت على أن شكوت من يرحمك, وفي ذلك قيل:
إذا شكوت إلى ابن آدم إنما * تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
والعارف إنما يشكو إلى الله وحده, وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس، فهو يشكو من موجبات تسليط الناس عليه، فهو ناظر إلى قوله تعالى: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" وقوله: "وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، وقوله: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم" فالمراتب ثلاثة: أخسها أن تشكو الله إلى خلقه، وأعلاها أن تشكو نفسك إليه، وأوسطها أن تشكو خلقه إليه. اهـ
وأما ما يستطيع المخلوق المساعدة فيه فلا حرج في الاستعانة بالمخلوق فيه, فيمكن الاستعانة بالحاكم في رفع الظلم, وبالطبيب, أو الوالد في علاج المرض والألم, فقد روى البخاري في الأدب المفرد والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه جاره فقال: يا رسول الله, إن جاري يؤذيني, فقال: أخرج متاعك فضعه على الطريق. فأخرج متاعه فوضعه على الطريق, فجعل كل من مر عليه قال: ما شأنك؟ قال: إني شكوت جاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أخرج متاعي فأضعه على الطريق, فجعلوا يقولون: اللهم العنه, اللهم اخزه, قال: فبلغ ذلك الرجل فأتاه, فقال: ارجع, فوالله لا أؤذيك أبدا. صححه الحاكم, وسكت عنه الذهبي, وقال الألباني في تحقيقه الأدب المفرد: حسن صحيح.
وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه: باب قول المريض: إني وجع، أو وارأساه، أو اشتد بي الوجع، وقول أيوب عليه السلام: أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [الأنبياء:83]
وروى الإمام أحمد والدارمي وغيرهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: رجع إلي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة من البقيع, فوجدني وأنا أجد صداعا, وأنا أقول: وارأساه، قال: بل أنا - يا عائشة - وارأساه.
وأما عن البكاء فإن البكاء الذي يعتري المرء عند المصائب أمر فطري، والناس يتفاوتون فيه كثرة وقلة، وقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رأى ابنا لابنته زينب - رضي الله عنها - نفسه تقعقع، فلما قال له الصحابة: ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء. رواه البخاري وغيره.
وقد جاء في الحديث: إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب. رواه البخاري وغيره.
وأما ضرب النفس عند المصيبة فلا نراه جائزا؛ لأنه مثل لطم الخدود الذي كان يعمله أهل الجاهلية عند المصائب, فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية.
وراجع في التأوه الفتوى رقم: 32691.
والله أعلم.