السؤال
كثيرا ما يأتيني الشطان ليشككني في أن رب الوجود واحد، ولكنه يقول لي: هذا النظام والاتزان قد يكون فيما تراه أنت من الوجود، وقد تكون بقية الوجود غير ذلك، وتكون هناك أرباب أخرى فعلا. فأقول له: إذا لماذا لم يتدخلوا ليمنعوا ربنا -حاشا لله- من الادعاء بأنه خالق كل شيء. فيقول لي: قد يكونون لا يعرفون بنا أصلا . فأقول له: إذا هم غافلون عنا. فيقول لي: ومن أدراك أنهم لا يفعلون الشيء نفسه مع مخلوقاتهم وربك أيضا غافل عن ذلك -حاشا لله- فأقول له: إذا أنت تريدني أن أؤمن أن الوجود أربابه: واحد كذاب، والثاني غافل. أنا لا أصدق ذلك.
وقرأت كثيرا من الكتب التي نصحتم بها السائلين قبلي، وسمعت تفسير الشيخ الشعراوي في آيات استحالة وجود أكثر من إله، وكل التفاسير تعتمد أن الرب لا يكون عاجزا أو ناقصا، ولكن يأتيني الشيطان دائما ليقحمني في تلك المناقشات التي تقتل وقتي. وما إن أخرج من شبهة حتى يدخلني في أخرى، فأخرج منها فيعيدني لسابقتها. إن تلك الحال أتعبتني، وتعيقني عن الاندماج في الدعاء، والصلاة، وتعطلني عن الانطلاق في حفظ القرآن، والمذاكرة التي أنشد بهما أن أصبح شيئا يغير من حال أمتنا المخزي بدلا من العوم في بحر الشبهات ذلك.
فلماذا لا يكون الرب عاجزا وما هو الحل. لمشكلتي وهل بذلك أعتبر شاكا وأدخل النار ؟؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فقولك: " يأتيني الشيطان " هذا يدل على أنك تعلم أن تلك الوساوس من الشيطان, وما دمت تعلم ابتداء أن تلك الوساوس أو الشكوك من الشيطان فلماذا تسترسل معها وتسمح لها أن تأخذ حيزا من تفكيرك؟! وخير علاج لتلك التساؤلات التي يلقيها الشيطان على قلبك هو الاستعاذة بالله تعالى والإعراض عنها؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله. اهــ.
فإذا كانت تلك الوساوس تخطر ببالك من غير أن تستقر، فعلاجها بما ذكرنا من الاستعاذة بالله تعالى والإعراض عنها. وأما إن استقرت فإنك قد تحتاج مع ذلك إلى شيء من النظر والاستدلال لطردها وإبطالها.
ولذا قال النووي- رحمه الله تعالى- في شرح الحديث السابق: قال الإمام المازري رحمه الله: ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها، والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها.
قال: والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرة، ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة؛ فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه. وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها. اهــ.
ودفع تلك الأسئلة التي ألقاها الشيطان على قلبك أمر ميسور. فقوله: إن الأرباب الأخرين لا يعلمون بوجودنا أصلا، فهذا يكفي في كونهم ليسوا أربابا لأن من صفات الرب أنه يحيط بكل شيء علما، ولا يخفى عليه شيء، فمن خفي عليه هذا الخلق الذي خلقه الله تعالى فإنه لا يستحق أن يكون ربا.
وقوله: لعل الله لا يعلم عن تلك المخلوقات. فجوابه أن الله تعالى أخبرنا ولا أصدق منه سبحانه أنه أحاط بكل شيء علما، وأنه لا يخفى عليه شيء، ثم إنه لو كان هناك أرباب خالقون غير الله فإنه لا بد أن يقع التنازع والاختلاف بين تلك الأرباب، إذ من صفة الرب أنه جبار متكبر لا يقبل شريكا معه في الملك والتدبير، ولو وقع تنازع مع تلك القوة الجبارة للرب لفسدت المعمورة، ولعجز أحدهما، والعاجز لا يصلح أن يكون ربا, قال تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون. الأنبياء : 22.
قال القرطبي: أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير؛ لأن أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا . وقيل : معنى لفسدتا أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء. { فسبحان الله رب العرش عما يصفون } نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد. اهــ.
ومثله أيضا قوله تعالى: وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون المؤمنون : 91 .
قال ابن كثير: أي: لو قدر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما يخلق، فما كان ينتظم الوجود. والمشاهد أن الوجود منتظم متسق، كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض، في غاية الكمال، { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } [الملك: 3]. ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض. والمتكلمون ذكروا هذا المعنى وعبروا عنه بدليل التمانع، وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدا، فأراد واحد تحريك جسم وأراد الآخر سكونه، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين، والواجب لا يكون عاجزا، ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد. وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد، فيكون محالا. فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان الغالب هو الواجب، والآخر المغلوب ممكنا؛ لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهورا؛ ولهذا قال: { ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } أي: عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علوا كبيرا. اهــ .
وأما هل تكون بذلك شاكا؟ نقول: إن كانت مجرد خواطر تكرهها ولم تستقر في نفسك، فأنت مسلم إن شاء الله تعالى، ولا تضر تلك الوساوس إيمانك, وأما إن استقرت في قلبك. فهذا يعني أنها ارتقت من كونها وساوس وخواطر إلى كونها شكا, والشك في انفراد الله بالربوبية أو الألوهية كفر أكبر مخرج من الملة .
فننصحك أيها السائل بالكف عن تلك الوساوس والاستعاذة بالله من شيطانها .
والله تعالى أعلم.