الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذا الصورة من البيع - وهو بيع الشخص سلعة نسيئة، ثم شراؤها من المشتري نفسه بثمن حال أقل منه - تسمى ببيع العينة، وجمهور العلماء على تحريمها؛ للآثار الواردة في ذلك, ولما فيها من حيلة على الربا، قال ابن قدامة: وجملة ذلك أن من باع سلعة بثمن مؤجل، ثم اشتراها بأقل منه نقدا, لم يجز في قول أكثر أهل العلم, روي ذلك عن ابن عباس، وعائشة، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والنخعي, وبه قال أبو الزناد، وربيعة, وعبد العزيز بن أبي سلمة، والثوري, والأوزاعي, ومالك, وإسحاق, وأصحاب الرأي, وأجازه الشافعي؛ لأنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها, فجاز من بائعها، كما لو باعها بمثل ثمنها.
ولنا، ما روى غندر, عن شعبة, عن أبي إسحاق السبيعي, عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل, أنها قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة - رضي الله عنها - فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم, فقالت لها: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب. رواه الإمام أحمد، وسعيد بن منصور.
والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه، إلا بتوقيف سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجرى مجرى روايتها ذلك عنه، ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، فإنه يدخل السلعة؛ ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل معلوم, وكذلك روي عن ابن عباس في مثل هذه المسألة أنه قال: أرى مائة بخمسين بينهما حريرة. يعني خرقة حرير جعلاها في بيعهما. والذرائع معتبرة لما قدمناه .اهـ.
والمخرج من ذلك: أن يبيع المشتري السلعة على شخص آخر غير البائع، وهذه الصورة جائزة عند جمهور العلماء، وتسمى عند الحنابلة بالتورق، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: والتورق في الاصطلاح: أن يشتري سلعة نسيئة، ثم يبيعها نقدا - لغير البائع - بأقل مما اشتراها به؛ ليحصل بذلك على النقد, ولم ترد التسمية بهذا المصطلح إلا عند فقهاء الحنابلة، أما غيرهم فقد تكلموا عنها في مسائل بيع العينة.
جمهور العلماء على إباحته - سواء من سماه تورقا - وهم الحنابلة - أو من لم يسمه بهذا الاسم - وهم من عدا الحنابلة - لعموم قوله تعالى: "وأحل الله البيع" ولقوله صلى الله عليه وسلم لعامله على خيبر: بع الجمع بالدراهم, ثم ابتع بالدراهم جنيبا, ولأنه لم يظهر فيه قصد الربا, ولا صورته, وكرهه عمر بن عبد العزيز, ومحمد بن الحسن الشيباني, وقال ابن الهمام: هو خلاف الأولى، واختار تحريمه ابن تيمية, وابن القيم؛ لأنه بيع المضطر, والمذهب عند الحنابلة إباحته. اهـ. وانظر الفتوى رقم:24240.
وأما ما يتعلق ببيع السلع المشتراة قبل قبضها، فراجع فيه الفتوى رقم: 60275.
وأما ما مضى من هذه البيوع، فإن الواجب عليك التوبة منها، وما كان منها باقيا فلا تأخذ من المشتري أكثر مما دفعت إليه نقدا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما, أو الربا. رواه أبو داود, والحاكم, وابن حبان. وأوكسهما: أي أقل الثمنين.
وفي بعض روايات حديث عائشة السابق: فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذت رأس مالي, ورددت عليه الفضل؟ قالت عائشة: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف أو قالت: وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم.
وعليه, فلو بعت السلعة بمائة مؤجلة، ثم اشتريتها بثمانين نقدا، فليس لك أن تأخذ من المشتري إلا ثمانين.
والله أعلم.