الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنود أن ننبه -أولا- الأخت السائلة أن تكون على حذر من تتبع أسئلة الشبهات، فإنها مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وخاصة ما كان متعلقا منها بأمور العقيدة، وأفعال الله سبحانه في خلقه، ونحن إنما نقول لها هذا التنبيه لكونه قد ورد إلينا منها سؤال سابق يتعلق بمثل هذا النوع من الشبهات، ولا يأمن المسلم أن تزل قدمه، فإن هذا الباب -نعني باب الشبهات- سلاح من أسلحة الشيطان لإغواء بني آدم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه، فليستعذ بالله، ولينته.
والمولى -تبارك وتعالى- له الحكمة البالغة في أقواله وأفعاله، فإنها لا تصدر إلا عن علم وحكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، فواجب المسلم التسليم على كل حال؛ لأن هذا من مقتضى الإيمان، كما قال سبحانه: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما {النساء:65}.
وهو سبحانه له العدل التام، فلا يظلم أحدا بأي حال من الأحوال، قال تعالى: ولا يظلم ربك أحدا {الكهف:49}، وقال: ولا تظلمون فتيلا {النساء:77}.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول الله تعالى: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا.
وظننا بك أنك تؤمنين بعلم الله، وحكمته، وعدله، ولكنك قد أسأت إساءة بالغة، ولم تحسني السؤال حين صدرته بقولك: أليس من الظلم... إلخ، وكان الأولى أن تقولي مثلا: ما هو الرد على من يزعم....
وأولى ما نقول في جواب هذه الشبهة أن الله -سبحانه- هو الرب الخالق المتصرف، فله الحق في أن يتصرف في خلقه كيف يشاء، قال تعالى: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون {الأنبياء:23}، وقال أيضا: والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب {الرعد:41}.
قال ابن كثير في تفسيره: وقوله: لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ـ أي: هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد لعظمته، وجلاله، وكبريائه، وعلمه، وحكمته، وعدله، ولطفه: وهم يسئلون ـ أي: وهو سائل خلقه عما يعملون، كقوله: فو ربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون {الحجر: 92ـ 93}، وهذا كقوله تعالى: وهو يجير ولا يجار عليه. اهـ.
هذا أولا، فعلى العبد أن يرضى له، ويسلم بقدره، ويقبل على الالتزام بشرعه ليحصل سعادة الدارين.
ثانيا: أن آية الأمانة في خواتيم سورة الأحزاب بينت أن هذه الأمانة قد عرضها الله على الإنسان، وارتضى حملها، نعم ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بالإنسان آدم -عليه السلام- ولكنهم لا يعنون أن هذا العهد لم يؤخذ على ذريته أيضا، فقد دلت آية الميثاق في سورة الأعراف على أن الله تعالى قد أخذ العهد على بني آدم وهم في ظهور آبائهم، نعني قول الله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين {الأعراف:172}.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك، وجبلهم عليه، قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله {الروم:30} وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ـ وفي رواية: على هذه الملة ـ وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم... اهـ.
ونقل ابن كثير -أيضا- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- موقوفا قال: إن الله مسح صلب آدم، فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وتكفل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة. اهـ.
ونؤكد لك في الختام على الحذر من أسئلة الشبهات وصرف الهمة إلى السؤال عما وراءه عمل، فذلك خير وأنفع.
والله أعلم.