معنى المشيئة في قوله تعالى: يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء

0 349

السؤال

قال تعالى: يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
أريد أن أعرف على أي أساس تكون المشيئة؟
أرجو أن تذكروا كل ما قاله العلماء.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فالمشيئة المذكورة في هذه الآية وأمثالها تحمل على عمومها وإطلاقها، فلا تخصص ولا تقيد إلا بدليل شرعي، ومن النصوص المقيدة لها قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 48] [النساء: 116]. فما دون الشرك، والكفر من الذنوب، وما سوى المشرك، والكافر من الخلق، تحت مشيئة الله تعالى، فمن شاء غفر له بفضله، وبرحمته، ومن شاء عذبه بعدله، وحكمته.

قال الحارث المحاسبي في (فهم القرآن): فإن أراد أن يعذب بعض من استوجب، فيعذبه بعدله، ويعفو عن بعض من وجب عليه، فيعفو عنه بفضل رحمته لزلاته، يقول: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فأخبر أنه لا مشيئة له في مغفرة أحد من المشركين، وله المشيئة فيما دون الشرك بالمغفرة عمن يشاء منهم، فأخبر أنه لم يرد أن يعذبهم كلهم، وأن يغفر لبعض من يشاء منهم، وأخبر أنهم جميعا مستحقون للعذاب، وأن له مشيئة في بعض من استحق منهم العذاب الذي وجب عليهم في حكمه، ولم يعلمنا من يغفر له، فقطعنا بما قطع، وأيسنا من عفوه عمن آيسنا منهم من المغفرة للمشركين، وأوقفنا ما أوقف من عذاب المستحقين من المؤمنين ... اهـ.
وقال القاسمي في (محاسن التأويل): {ويغفر ما دون ذلك} أي ما دون الشرك من المعاصي، صغيرة كانت أو كبيرة لمن يشاء تفضلا منه وإحسانا.

قال ابن جرير: وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عز وجل. إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه. ما لم تكن كبيرته شركا بالله عز وجل. وظاهره أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة. وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة. وقد تقدم قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} [النساء: 31]. وهي تدل على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته. ولذا قال الرازي: هذه الآية من أقوى الدلائل لنا على العفو عن أصحاب الكبائر. ثم جود وجوه الاستدلال. ومنها: أن ما سوى الشرك يدخل فيه الكبيرة قبل التوبة. ومنها: أن غفران الكبيرة بعد التوبة، وغفران الصغيرة مقطوع به، وغير معلق على المشيئة، فوجب أن يكون الغفران المذكور في هذه الآية هو غفران الكبيرة قبل التوبة. اهـ.
وعلى أية حال، فمشيئة الله تعالى تابعة لعلمه، وحكمته.

قال الشيخ ابن عثيمين في تفسير سورة البقرة: مشيئته تعالى تابعة لحكمته؛ لقوله عز وجل: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما} [الإنسان: 30]. اهـ.
وقال الدكتور محمد الحمد في كتاب (مصطلحات في كتب العقائد): كل صفة تعلقت بمشيئته تعالى فإنها تابعة لحكمته، وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نعجز عن إدراكها، لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء إلا وهو موافق لحكمته، كما يشير إليه قوله تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما} [الإنسان:30]. اهـ.
وأما صفات من شاء الله أن يغفر لهم، ومن شاء أن يعذبهم، فتؤخذ من الأدلة التفصيلية، كقوله تعالى: {الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير} [فاطر: 7] وقوله سبحانه: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } [المائدة:9، 10] وقوله عز وجل: {فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم. والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم} [الحج: 50، 51] وقوله تعالى: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير } [الملك: 12] وقوله: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما } [الأحزاب: 35].
ومما ورد في بيان من شاء الله أن يعذبهم، قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} [البروج: 10] وقوله: {والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور } [فاطر: 10] وقوله: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون } [النور: 19] ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} كقوله في آل عمران: {ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم} وقوله: {ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير} ونحو ذلك. وقد علمنا أنه لا يغفر أن يشرك به، وأنه لا يعذب المؤمنين، وأنه يغفر لمن تاب. اهـ.

وراجعي للفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 63590، 101056، 121304.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة