الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فان القرآن كلام الله جل وعلا، أخذه جبريل عن الله، وقرأه على محمد صلى الله عليه وسلم، واستمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل، وأخذه منه كما تكلم به الله جل وعلا، وحفظه الله تعالى في قلب محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين {النحل:102}
وقد جزم أهل القراءات بأنها منقولة كلها عن الله تعالى، ولذا تجد أسانيدهم في المشرق والمغرب يذكر في آخر السند عن جبريل عن الله تعالى، فهذا صريح في أن القراءات كلها تكلم بها الله سبحانه وتعالى .
وأما المنسوخ فهو من كلام الله تعالى أنزله على رسوله، ثم نسخه متى شاء، كما قال تبارك وتعالى: وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب * يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب {الرعد:38ـ 39}.
روى الطبري عن ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ـ قال: من القرآن، يقول: يبدل الله ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله: وعنده أم الكتاب ـ يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ، وما يبدل وما يثبت، كل ذلك في كتاب. اهـ.
وفي تفسير مقاتل بن سليمان: لكل أجل كتاب ـ يقول: لا ينزل من السماء كتاب إلا بأجل: يمحو الله ما يشاء ـ يقول: ينسخ الله ما يشاء من القرآن: ويثبت ـ يقول: ويقر من حكم الناسخ ما يشاء فلا ينسخه: وعنده أم الكتاب ـ يعني أصل الكتاب، يقول: الناسخ من الكتاب والمنسوخ، فهو في أم الكتاب، يعني بأم الكتاب: اللوح المحفوظ، يعني أصل الكتاب، يقول: الناسخ من الكتاب والمنسوخ فهو في أم الكتاب، يعني بأم الكتاب اللوح المحفوظ. اهـ.
وقد ثبت في العرضة الأخيرة ما لم ينسخ من القرآن، كما قال صاحب نظم المقرب المبسوط في المرسوم والمضبوط :
والعرضة الأخرى لها زيد حضر * وهي التي فيها سوى المنسوخ قر
وأما الأحرف السبعة فقد نزل بها القرآن من عند الله تعالى ، كما يدل له ما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها. فكدت أن أعجل عليه. ثم أمهلته حتى انصرف. ثم لببته بردائه. فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا رسول الله؛ إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله. اقرأ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت. ثم قال لي: اقرأ، فقرأت. فقال: هكذا أنزلت. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. فاقرؤوا ما تيسر منه. اهـ
وقد ذهب بعض السلف إلى أن كتابة الصحابة للمصحف في عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ اقتصرت على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وهو ما كان في العرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام، لأن نزول القرآن على سبعة أحرف كان تسهيلا وتيسيرا على الأمة الأمية في بداية أمرها، وليس إلزاما لها، فكان للقارئ أن يختار من هذه الأحرف ما تيسرت له القراءة به، قال ابن عبد البر في الاستذكار: والذي أقول به: إن جمع عثمان ـ رضي الله عنه ـ في جماعة الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ القرآن على حرف واحد بكتابة زيد بن ثابت، إنما حملهم على ذلك ما اختلف فيه أهل العراق وأهل الشام، فاتفق رأي الصحابة وعثمان ـ رضوان الله عليهم ـ على أن يجمع لهم القرآن على حرف واحد من تلك السبعة الأحرف، إذ صح عندهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كلها شاف كاف، فاكتفوا ـ رحمهم الله ـ بحرف واحد منها.
وقد اختلف أهل العلم في بقاء الحروف السبعة في القراءات التي بين أيدينا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: مذهب الطبري والطحاوي وابن عبد البر: أن عثمان جمع الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة، لئلا تختلف الأمة، وأمر الناس بترك ما سواه، وبذلك اندثرت الأحرف الستة الباقية.
القول الثاني: مذهب ابن الجزري ومن وافقه: أن الأحرف السبعة بقي منها ما يحتمله رسم المصحف، وقال: إن الصحابة كتبوا المصاحف على لفظ لغة قريش في العرضة الأخيرة، وجردوا المصاحف من النقط والشكل لتحتمل صورة ما بقي من الأحرف السبعة، فالمصحف كتب على حرف واحد، وخطه محتمل لأكثر من حرف، لأنه لم يكن منقوطا ولا مشكولا فذلك الاحتمال الذي احتمله هو من الستة الأحرف الباقية، وهذا القول قريب من القول الأول لاتفاقهما أن المصحف كتب على حرف واحد، لكن القول الثاني يزيد بأن هذه الكتابة تحتمل حروفا أخرى من الأحرف الستة الباقية.
القول الثالث: ما ذهب إليه السيوطي ومن وافقه: وهو أن المصاحف العثمانية قد اشتملت على الأحرف السبعة كلها، وأن الأمة لا يجوز لها أن تهمل نقل شيء منها.
والذي عليه الجمهور ورجحه المحققون هو القول الثاني، وللتوسع في هذا الموضوع انظر كتاب مناهل العرفان للزرقاني، ودراسات في علوم القرآن للدكتور الرومي.
والله أعلم.