السؤال
أريد أن أفهم كيف يقول العلماء إن كل حركاتنا مكتوبة في الأزل، وأن الدعاء لا يغير القدر الذي في اللوح المحفوظ، وفي نفس الوقت يأمرنا ربنا بالدعاء، ويقول: ادعوني أستجب لكم. وفي نفس الوقت يقول الله: اتقوا الله. أطيعوا الله والرسول. ويأمرنا بأشياء، وينهانا عن أشياء، ويقول: وما كان الله ليعذبهم وهم يستغفرون؟
أرهقتني المسألة منذ أسابيع، وأنا حزينة، منهكة القوى؛ لعجزي عن الفهم. وقد قرأت فتاواكم سابقا، ولم أصل لدرجة الفهم. وكيف يكون الزواج مكتوبا، وفي نفس الوقت أمرنا باختيار صاحب الخلق، والدين والله يقول: ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم.؟
وأيضا كيف أتخلص من وسوسة الشيطان الذي يضيق علي صدري حول الذات الإلهية، وكل مرة يريد تشكيكي بذات الله، وتصيبني حالة هلع، مع العلم أنني مريضة بمس، وسحر منذ الطفولة، واستعملت علاجات شرعية ولم أشف.
هل للمس تأثير علي في هذه الهواجس أم لا؟ مع أنني أتعذب من المسألة الأولى، والثانية؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يخفف عنك، ونوصيك بحسن الظن بالله تعالى، وننبهك إلى أن ما ذكره العلماء بخصوص المقادير، مسطور في القرآن، والسنة في مواضع كثيرة؛ ذكرنا بعضها بالفتويين: 4390، 24911.
وقد بين الإمام ابن القيم المسألة الأولى في الداء والدواء؛ فقال: وههنا سؤال مشهور، وهو أن المدعو به إن كان قد قدر، لم يكن بد من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدع. وإن لم يكن قد قدر، لم يقع، سواء سأله العبد أو لم يسأله. فظنت طائفة صحة هذا السؤال، فتركت الدعاء، وقالت: لا فائدة فيه! وهؤلاء -مع فرط جهلهم، وضلالهم-متناقضون، فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب. فيقال لأحدهم: إن كان الشبع، والري قد قدرا لك، فلا بد من وقوعهما، أكلت أو لم تأكل. وإن لم يقدرا لم يقعا، أكلت أو لم تأكل. وإن كان الولد قدر لك، فلا بد منه، وطئت الزوجة، والأمة أو لم تطأ. وإن لم يقدر لم يكن، فلا حاجة إلى التزوج، والتسري. وهلم جرا. فهل يقول هذا عاقل، أو آدمي! بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه، وحياته. فالحيوانات أعقل، وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام، بل هم أضل سبيلا.
وذكر بعض الأجوبة الضعيفة؛ ثم قال: والصواب أن ها هنا قسما ثالثا غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء. فلم يقدر مجردا عن سببه، ولكن قدر بسببه. فمتى أتى العبد بالسبب، وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور. وهذا كما قدر الشبع، والري بالأكل، والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه. وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال، هذا القسم هو الحق، وهو الذي حرمه السائل ولم يوفق له. وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب. فإذا قدر وقوع المدعو به، بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل، والشرب، وجميع الحركات والأعمال! وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول المطلوب. ولما كان الصحابة-رضي الله عنهم-أعلم الأمة بالله ورسوله، وأفقههم في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه، وآدابه من غيرهم. وكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستنصر به على عدوه، وكان أعظم جنديه، وكان يقول للصحابة: لستم تنصرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء، وكان يقول: إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن هم الدعاء. فإذا ألهمت الدعاء، فإن الإجابة معه. وأخذ الشاعر هذا، فنظمه، فقال:
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من جود كفك ما عودتني الطلبا
فمن ألهم الدعاء، فقد أريد به الإجابة، فإن الله سبحانه يقول: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60]. وقال: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186].
وقد دل العقل، والنقل، والفطر، وتجارب الأمم -على اختلاف أجناسها، ومللها، ونحلها- على أن التقرب إلى رب العالمين، وطلب مرضاته، والبر والإحسان إلى خلقه، من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير. وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر. فما استجلبت نعم الله، واستدفعت نقمه بمثل طاعته، والتقرب إليه، والإحسان إلى خلقه. انتهى بتصرف.
وراجعي للفائدة الفتويين: 9890، 35295.
وأما بخصوص الجمع بين القدر، والشرع (الأمر، والنهي) كاختيار ذات الدين، مع أنه مقدر للإنسان من يتزوجه؛ فكما ذكر ابن القيم؛ من أن الله قدر ذلك بأسباب، منها: اختيار الشخص، كما قدر له رزقه، لكن قدر أنه يعمل، ويكدح، فينال رزقه؛ وانظري الفتويين: 2847، 47098.
وراجعي الفتوى رقم: 227695، وتوابعها بخصوص الوساوس في الذات الإلهية.
ونسأل الله أن يعافيك من الوسوسة، وننصحك بملازمة الدعاء، والتضرع، وأن تلهي عن هذه الوساوس، ونوصيك بمراجعة طبيب نفسي ثقة. ويمكنك مراجعة قسم الاستشارات من موقعنا، وراجعي الفتاوى أرقام: 3086، 51601، 147101، وتوابعها.
وأما بخصوص المس، والسحر؛ فنوصيك بالصبر، والاحتساب؛ فإنهما من جنس المصائب، والأمراض التي يؤجر العبد بالصبر عليها؛ وانظري الفتويين: 138299، 66375. وراجعي الفتوى رقم: 4310، بخصوص الرقية.
والله أعلم.