هل عدم الرد على الشتائم يدل على ضعف ‏الشخصية؟

0 468

السؤال

هل عدم الرد على ‏الإهانة، والشتيمة يدل على ضعف ‏الشخصية فعلا؟ فأنا -والحمد لله- أقوم باحترام الجميع، ‏ولم أتلفظ في يوم من الأيام بأي لفظ ‏خارج عن الأدب، لكني عانيت منذ طفولتي من ‏بعض الأشخاص الذين كانوا ‏يستغلون خجلي الشديد، ويقومون ‏بشتمي شتائم قاسية، قد تصل إلى ‏لعن الدين -والعياذ بالله -والأم، ‏والأهل، وكنت –للأسف- ألتزم الصمت؛ ‏لأني كنت معروفا بأخلاقي، كما أن ‏الفكرة التي أقنعت بها نفسي، بأني ‏سوف أقتص منهم في دار الحق، ‏ولن أترك لأحد مجالا لأن يأتي يوم ‏القيامة، ويقول: فلان شتمني، بل ‏سأسترد حقي منهم، ولن أعفو ‏عنهم، لكن المشكلة نظرات البعض ‏لي على أني لا كرامة لي، وبأني ‏ضعيف الشخصية؛ لأني لم أرد ‏عليهم، أو أبادر لضربهم، تقتلني، ‏وتشعرني بأني لست رجلا، وأني لا ‏أصلح لكي أكون أسرة ما دمت لا ‏أستطيع حماية نفسي من تسلط ‏الآخرين، فما العمل؟ أريد معرفة كيف كان ‏السلف الصالح يتعاملون مع الشتائم، ‏والإهانة؟ وما الطريقة الأفضل ‏لكي أحفظ بها كرامتي أمام الآخرين؟ ‏ولكم جزيل الشكر.‏

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

‏ فإن المسلم إذا بغي عليه، يشرع له ‏السعي في التمكن من الانتصار، وأن ‏يظهر للباغي قدرته على الانتقام، ثم ‏يعفو بعد القدرة، وهذا هو الظاهر ‏من طريقة السلف.‏

قال ابن رجب: ووصفهم في ‏معاملتهم للخلق بالمغفرة عند ‏الغضب، وندبهم إلى العفو ‏والإصلاح.

وأما قوله: {والذين إذا ‏أصابهم البغي هم ينتصرون} فليس ‏منافيا للعفو، فإن الانتصار يكون ‏بإظهار القدرة على الانتقام، ثم يقع ‏العفو بعد ذلك، فيكون أتم وأكمل، قال ‏النخعي في هذه الآية: كانوا يكرهون ‏أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا. وقال ‏مجاهد: كانوا يكرهون للمؤمن أن ‏يذل نفسه، فيجترئ عليه الفساق، ‏فالمؤمن إذا بغي عليه، يظهر القدرة ‏على الانتقام، ثم يعفو بعد ذلك، وقد ‏جرى مثل هذا لكثير من السلف، ‏منهم: قتادة، وغيره. اهـ.‏

وجاء في فيض الباري: قال إبراهيم: ‏كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا ‏قدروا عفوا. أي كانوا يسعون أن ‏يقدروا على الانتقام، فاذا قدروا عليه ‏عفوا، وترك سعي التمكن على ‏الانتصار هو الذي عنوه بالذلة، ‏والعفو بعد القدرة هو عمل أصحاب ‏العزائم. اهـ.‏

وفي الفروع : وقال شيخنا - ابن ‏تيمية - في الآية المذكورة {والذين ‏إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} ‏فائدة عظيمة، وهو أن حمدهم على ‏أنهم ينتصرون عند البغي عليهم، ‏كما أنهم هم يعفون عند الغضب، ‏ليسوا مثل الذي ليس له قوة ‏الانتصار، وفعله لعجزهم، أو كسلهم، أو ‏وهنهم، أو ذلهم، أو حزنهم، فإن أكثر ‏من يترك الانتصار بالحق، إنما يتركه ‏لهذه الأمور وأشباهها، وليسوا مثل ‏الذي إذا غضب لا يغفر، ولا يعفو، بل ‏يتعدى، أو ينتقم حتى يكف من خارج، ‏كما عليه أكثر الناس إذا غضبوا، أو ‏قدروا لا يقفون عند العدل، فضلا عن ‏الإحسان. فحمدهم على أنهم هم ‏ينتصرون وهم يعفون. اهـ.‏

فينبغي إذا تعرضت للشتم، ونحوه، أن ‏تسعى في الانتصار من الشاتم، ‏وتظهر القدرة على الانتقام، فإذا ‏تمكنت من الانتصار عفوت، وأما ‏العفو مع العجز فليس بمحمود ‏بإطلاق.

  قال ابن القيم: وكل خلق ‏محمود، مكتنف بخلقين ذميمين، وهو ‏وسط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان، ‏كالجود: الذي يكتنفه خلقا البخل، ‏والتبذير، فإن النفس متى انحرفت ‏عن التوسط، انحرفت إلى أحد الخلقين ‏الذميمين ولا بد، وإذا انحرفت عن ‏خلق الحلم انحرفت: إما إلى الطيش، ‏والترف، والحدة، والخفة، وإما إلى ‏الذل، والمهانة، والحقارة، ففرق بين ‏من حلمه حلم ذل، ومهانة، وحقارة، ‏وعجز، وبين من حلمه حلم اقتدار، ‏وعزة، وشرف، كما قيل:‏

كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة ‏لاجئ إليها اللئام. اهـ. باختصار من ‏مدارج السالكين.‏

وأما سب الدين، ونحوه، فيشرع ‏الاستيفاء فيه -برفعه إلى القضاء ‏الشرعي، ونحو ذلك -وعدم العفو ‏مطلقا؛ لأنه متعلق بحق الله سبحانه.

  ‏قال ابن تيمية: وأما قول السائل: هل ‏يقتص منه؛ لئلا يؤدي إلى طمع منه ‏في جانب الحق؟ فيقال: متى كان ‏فيما فعله إفساد لجانب الحق، كان ‏الحق في ذلك لله، ورسوله، فيفعل فيه ‏ما يفعل في نظيره، وإن لم يكن فيه ‏أذى للآمر الناهي، والمصلحة في ‏ذلك تتنوع؛ فتارة تكون المصلحة ‏الشرعية القتال، وتارة تكون ‏المصلحة المهادنة، وتارة تكون ‏المصلحة الإمساك، والاستعداد بلا ‏مهادنة، وهذا يشبه ذلك؛ لكن الإنسان ‏تزين له نفسه أن عفوه عن ظالمه ‏يجريه عليه، وليس كذلك؛ بل قد ثبت ‏عن النبي صلى الله عليه وسلم في ‏الصحيح أنه قال: {ثلاث إن كنت ‏لحالفا عليهن: ما زاد الله عبدا بعفو ‏إلا عزا، وما نقصت صدقة من مال، ‏وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله}.

‏فالذي ينبغي في هذا الباب أن يعفو ‏الإنسان عن حقه، ويستوفي حقوق ‏الله بحسب الإمكان، قال تعالى: ‏‏{والذين إذا أصابهم البغي هم ‏ينتصرون}.

قال إبراهيم النخعي: ‏كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا ‏عفوا. قال تعالى: {هم ينتصرون} ‏يمدحهم بأن فيهم همة الانتصار ‏للحق، والحمية له؛ ليسوا بمنزلة ‏الذين يعفون عجزا وذلا؛ بل هذا مما ‏يذم به الرجل، والممدوح العفو مع ‏القدرة، والقيام لما يجب من نصر ‏الحق، لا مع إهمال حق الله، وحق ‏العباد. اهـ. من مجموع الفتاوى.‏

وانظر للفائدة الفتوى رقم: 112756.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة