السؤال
قال تعالى في سورة النساء في حالة الجارية التي تزني بعد زواجها: (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم)، ألم يكن هذا دليلا قاطعا على عدم ثبوت الرجم في الإسلام، وأن الأدلة السنية واهية أمام الآيات العظيمة؟ لماذا أرى بعض الشيوخ مصرين على ثبوته من القرآن، وأدلتهم غير مقنعة؛ فالحديث لا ينسخ الآية؟ أرجو الإفادة، وشكرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن آية النساء: ومن لم يستطع منكم طولا ... {النساء: 25}. الآية. جاءت مبينة لحد الأرقاء خاصة، وأنه نصف حد الأحرار الذي جاء في سورة النور على العموم في قوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة {النور: 2}، ولذلك فالرقيق إذا زنى ولو بعد الإحصان، لا يرجم؛ لهذه الآية، وللأحاديث الواردة في ذلك؛ لأن الله تعالى نص على أن حده نصف حد الأحرار، والذي يمكن تجزئته وتنصيفه هو الجلد، وأما الرجم -الذي هو القتل- فلا يمكن تنصيفه؛ وبذلك تعلم أنه لا دليل في الآية الكريمة على ما ذكرت من إثباتها القطعي لعدم الرجم.
وأما الرجم فليس حكمه ثابتا بالسنة فقط، بل قد ثبت حكمه في القرآن، كما في الآية التي نسخ لفظها وبقي حكمها.
وفي السنة الصحيحة القولية، والفعلية، وبإجماع كافة أهل العلم، ولم يشذ عن القول به إلا بعض المبتدعة، فعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها، وعقلتها، ووعيتها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى إذا أحصن من الرجال، والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، نكالا من الله، والله عزيز حكيم. متفق عليه.
وعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة، فكان فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما البتة. صحيح ابن حبان.
وقال ابن قدامة في المغني: الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة: (أحدهما): في وجوب الرجم على الزاني المحصن، رجلا كان، أو امرأة، وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار، ولا نعلم فيه مخالفا إلا الخوارج، فإنهم قالوا: الجلد للبكر، والثيب.
وقال مبينا أدلة الرجم: قد ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله، وفعله، في أخبار تشبه التواتر، وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أنزله الله تعالى في كتابه، وإنما نسخ رسمه دون حكمه. انتهى.
وأما عن قولك بعدم نسخ السنة القرآن، فإنه ليس في مسألة الرجم نسخ القرآن بالسنة، وإنما جاءت السنة مبينة لكون الآية المنسوخ لفظها باقية الحكم، فتعتبر السنة هنا موافقة للقرآن، وليست ناسخة له.
وأما مسألة نسخ السنة للقرآن: فهذه المسألة مختلف فيها بين أهل العلم، وقد حقق الشيخ الشنقيطي في الأضواء أن الصواب جوازه، ووقوعه؛ لأن كلا من السنة الثابتة تواترا، أو آحادا تعتبر وحيا فقد قال -رحمه الله-: الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - هو أن الكتاب والسنة كلاهما ينسخ بالآخر؛ لأن الجميع وحي من الله تعالى.
فمثال نسخ السنة بالكتاب: نسخ استقبال بيت المقدس، باستقبال بيت الله الحرام، فإن استقبال بيت المقدس أولا إنما وقع بالسنة، لا بالقرآن، وقد نسخه الله بالقرآن في قوله: فلنولينك قبلة ترضاها. {البقرة: 144} الآية.
ومثال نسخ الكتاب بالسنة: نسخ آية: عشر رضعات. تلاوة وحكما بالسنة المتواترة... وقد قدمنا في سورة الأنعام أن الذي يظهر لنا أنه الصواب: هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه، وأنه لا معارضة بينهما؛ لأن المتواتر حق، والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئا جديدا لم يكن موجودا قبل، فلا معارضة بينهما ألبتة؛ لاختلاف زمنهما، فقوله تعالى: قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم. {الأنعام: 145} الآية. يدل بدلالة المطابقة، دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية؛ لصراحة الحصر بالنفي، والإثبات في الآية في ذلك، فإذا صرح النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح بأن لحوم الحمر الأهلية غير مباحة، فلا معارضة ألبتة بين ذلك الحديث الصحيح، وبين تلك الآية النازلة قبله بسنين؛ لأن الحديث دل على تحريم جديد، والآية ما نفت تجدد شيء في المستقبل، كما هو واضح... اهـ.
والله أعلم.