الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالحديث المذكور أخرجه أحمد والحاكم، وغيرهما، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، وضعفه الشيخ شعيب الأرناؤوط.
وقد ذكرت الآية سببا من أسباب العذاب -وهو العذاب بالذنوب- وهو الذي نصوا عليه، ولم تنف وجود أسباب أخر للعذاب في الدنيا؛ فقد يعذب الله بعض خلقه ابتلاء لهم، ترتفع به درجتهم، وقد يعوضهم بعد، ومن ذلك ابتلاء الأنبياء، والصغار؛ وانظر الفتوى رقم: 95198.
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: وقد علم الله رسوله أن يبطل قولهم بنقضين: أولهما من الشريعة، وهو قوله: قل فلم يعذبكم بذنوبكم. يعني أنهم قائلون بأن نصيبا من العذاب ينالهم بذنوبهم، فلو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم بذنوبهم، وشأن المحب أن لا يعذب حبيبه، وشأن الأب أن لا يعذب أبناءه. روي أن الشبلي سأل أبا بكر بن مجاهد: أين تجد في القرآن أن المحب لا يعذب حبيبه؟ فلم يهتد ابن مجاهد، فقال له الشبلي في قوله: قل فلم يعذبكم بذنوبكم.
وليس المقصود من هذا أن يرد عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر، من تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم؛ لأن ذلك لا يعترفون به، فلا يصلح للرد به، إذ يصير الرد مصادرة، بل المقصود الرد عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم، سواء كان عذاب الآخرة، أم عذاب الدنيا.
فأما اليهود فكتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة [البقرة: 80] .
وأما النصارى فلم أر في الأناجيل ذكرا لعذاب الآخرة، إلا أنهم قائلون في عقائدهم بأن بني آدم كلهم استحقوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم، فجاء عيسى ابن مريم مخلصا، وشافعا، وعرض نفسه للصلب ليكفر عن البشر خطيئتهم الموروثة، وهذا يلزمهم الاعتراف بأن العذاب كان مكتوبا على الجميع لولا كفارة عيسى، فحصل الرد عليهم باعتقادهم به، بله اعتقادنا. انتهى.
فما يحصل من العذاب لبعض المؤمنين؛ قد يكون بسبب بعض الذنوب؛ فيكون كفارة لها؛ قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [الشورى: آية 30].
وقد يكون لرفعة الدرجات؛ قال تعالى: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم [سورة التغابن : آية 11].
وإنما المنفي أن يعذب عقوبة مع المحبة، لا أن يعذب ابتلاء لترفع درجته، أو تكفيرا لذنبه.
ونذكر شرحا مختصرا للحديث.
قال القاري في المرقاة: (قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم: " أمتي هذه ") أي: أمة الإجابة الموجودة ذهنا، المعهودة معنى، كأنها المذكورة حسا (أمة مرحومة) أي: رحمة زائدة على سائر الأمم; لكون نبيهم رحمة للعالمين، بل مسمى بنبي الرحمة، وهم خير أمة (ليس عليها عذاب) أي: شديد (في الآخرة) بل غالب عذابهم أنهم مجزيون بأعمالهم في الدنيا بالمحن، والأمراض، وأنواع البلايا، كما حقق في قوله تعالى: {من يعمل سوءا يجز به} [النساء: 123]. على ما تقدم، والله تعالى أعلم، ويؤيد قوله: (عذابها في الدنيا الفتن، والزلازل، والقتل) أي: بغير حق، وقيل: الحديث خاص بجماعة لم تأت كبيرة، ويمكن أن تكون الإشارة إلى جماعة خاصة من الأمة، وهم المشاهدون من الصحابة، أو المشيئة مقدرة؛ لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48].
وقال المظهر: هذا حديث مشكل; لأن مفهومه أن لا يعذب أحد من أمته - صلى الله تعالى عليه وسلم - سواء فيه من ارتكب الكبائر وغيره، فقد وردت الأحاديث بتعذيب مرتكب الكبيرة، اللهم إلا أن يؤول المراد بالأمة هنا من اقتدى به - صلى الله تعالى عليه وسلم - كما ينبغي، ويمتثل بما أمر الله، وينتهي عما نهاه. اهـ.
والله أعلم.