ماهية ثوب الشهرة ، والميزان في العزلة والمخالطة

0 619

السؤال

سؤالي يتمحور حول موضوع الشهرة في الإسلام، فالمرجو الاستدلال بالأحاديث التي تخص هذا الباب: مشكلتي هي أنني ألبس اللباس الشرعي للرجل، وهذا اللباس يجلب الأنظار ليس لكونه بذاته جالبا للأنظار، ولكن لأن أغلبية الشباب يلبسون حسب الموضة دون أن أتحدث عن اللحية واستعمال السواك والذهاب إلى المسجد كل صلاة وغيرها، لهذا يجلب الشهرة رغما عن أنفي، فوجدت أن الحل الوحيد هو العزلة وعدم الظهور إلا للحاجة؟ فما رأيكم؟ وما نصائحكم لي ولمثلي من الشباب؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فقد جاء النهي عن لباس الشهرة في عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما ثبت عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لبس ثوب شهرة في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، والنسائي، ورجال إسناده ثقات، كما قال الشوكاني في نيل الأوطار.

وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد لبس ثوب شهرة إلا أعرض الله عنه حتى ينزعه. قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء: رواه ابن ماجه من حديث أبي ذر بإسناد جيد.

وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة، ثم يلهب فيه النار. أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وحسنه السيوطي، والألباني.

إلى غير ذلك من الأحاديث.
 وثوب الشهرة المذموم هو الثوب الذي يلبسه الشخص ويخالف فيه الناس ليشتهر بينهم ويتميز عليهم، تكبرا وعجبا أو إظهارا للتدين والزهد، قال ابن الأثير: المراد أن يعرف به ويشتهر بين الناس لمخالفة لونه لألوان ثيابهم، فيرفع الناس إليه أبصارهم، ويختال عليهم بالعجب والتكبر. اهـ.

وقال السرخسي: والمراد أن لا يلبس نهاية ما يكون من الحسن والجودة في الثياب على وجه يشار إليه بالأصابع، أو يلبس نهاية ما يكون من الثياب الخلق ـ القديم البالي ـ على وجه يشار إليه بالأصابع.

وقال صاحب عون المعبود: الحديث يدل على تحريم لبس ثوب الشهرة، وليس هذا مختصا بنفس الثياب، بل قد يحصل ذلك لمن يلبس ثوبا يخالف ملبوس الناس من الفقراء ليراه الناس فيتعجبوا من لباسه، قاله: ابن رسلان. اهـ.

وأما من لبس ثوبا مطابقا للمواصفات التي جاءت في السنة، فإنه لا يعتبر لابسا  لباس شهرة، بل يعتبر متمسكا بالسنة داعيا إليها، فمن كان هذا حاله فهو في أعلى درجات الاتباع، فإذا كان الشخص في بيئة يسبلون ثيابهم إلى أسفل من الكعبين وكان هو لا يلبس الثياب التي تتجاوز الكعبين، فإن هذا لا يعتبر لباس شهرة، وليس هو المقصود من الحديث، وقد نص اهل العلم على منع اتباع الناس في عاداتهم وهيئة لباسهم المحرمة، فقد قال ابن بطال في شرح البخاري: الذي ينبغي للرجل أن يتزيا في كل زمان بزي أهله ما لم يكن إثما، لأن مخالفة الناس في زيهم ضرب من الشهرة. اهـ.

وقال ابن القاسم في حاشية الروض المربع: قال ابن القيم: كان هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس مما يسره الله ببلده... وقال ابن عقيل: لا ينبغي الخروج عن عادات الناس إلا في الحرام. اهـ.

وأما عن مسألة العزلة: فإن خلطة الناس للاستفادة مما عندهم من الخير ولإفادتهم والتناصح معهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر مع الصبر على أذاهم أفضل، كما نص عليه النووي وذكر أنه هو هدي الأنبياء والخلفاء الراشدين. وينبغي للمؤمن الذي يريد الحفاظ على دينه أن لا يصاحب إلا الناس المستقيمين، وأن لا يكثر من مخالطة العصاة من العوام إلا إذا أراد أن يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي. حديث حسن رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم، عن ابن سعيد.

وقد ذكر العلماء أن كثرة مخالطة الناس بغير ضوابط شرعية من أسباب مرض القلب، وأما إذا كان الإنسان على قدر من العلم يمكنه من الدعوة إلى الله، فالأفضل في حقه المخالطة مريدا بذلك دعوة الناس وتعليم الجاهل وإرشاد السائل، كما قال تعالى: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين {فصلت:33}.

وقال صلى الله عليه وسلم: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. رواه الترمذي وغيره، وهو حديث صحيح.

وللعلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ تفصيل نفيس مهم في الميزان الصحيح للعزلة والمخالطة، فقد قال رحمه الله: إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازات، تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول، ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينها دخل عليه الشر:

أحدها: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر، وهم العلماء بالله تعالى وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله.

القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عند المرض، فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها، فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث.

وهم: من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه...

القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله، ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لأكله ترياق، وإلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس، لا كثرهم الله، وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا. انتهى.

 والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة