السؤال
هناك قاعدة فقهية تقول: لا واجب مع العجز، فما هو ضابط العجز؟ وإذا كانت تلحق الإنسان مشقة من السجود أو الركوع فهل يومئ بهما إيماء؟ وإذا كانت القراءة تثقل عليه فهل له أن يقرأ في نفسه دون اللسان، سواء كان مأموما أو منفردا؟ وإذا كان العمل يشق عليه فهل له الإتيان بما استطاع منه، كالإشارة، والقراءة بالقلب، مع النية، كالمرضى، وأهل الوسواس؟ وهل هذا ينطبق عليه قول الرسول عليه الصلاة والسلام: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم؟ وهل يكون الأخذ بالرخصة واجبا؟ فابن حجر في فتح الباري يقول: عدم الأخذ بالرخصة تنطع.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالقاعدة المذكورة صحيحة، وذكرها غير واحد من أهل العلم مع قاعدة: ولا محرم مع الضرورة ـ وقد بينا أصلها، والأدلة عليها من الكتاب والسنة في الفتوى رقم: 132571، ومنها الحديث المتفق عليه المشار إليه في السؤال.
وضابط العجز: عدم الاستطاعة بالكلية، أو مع حصول المشقة المعتبرة، فما لم يستطعه المكلف، أو يشق عليه فعله مشقة معتبرة، يسقط عنه، أو يخفف بقدر تلك المشقة، ومن ذلك الإيماء للركوع والسجود، وانظر الفتويين رقم: 25092، ورقم: 43608.
وأما ما يشق من غير ضرر معتبر: فلا يسقط، وقد رغب الشارع في تحمله، والصبر عليه، ومثاله الوضوء على المكاره، والصوم في الأيام الطويلة الحارة، والمجاهدة للنفس في حملها على طاعة الله، والقيام بالتكاليف الشرعية، وانظر الفتوى رقم: 179595، للمزيد من الفائدة والاطلاع على أقوال العلماء عن الضابط الصحيح للعجز، والمشقة المؤثرة في التكاليف الشرعية.
وأما الأخذ بالرخصة: فليس بواجب إلا على من عجز عن العزيمة، وهل الأفضل للقادر الأخذ بالعزيمة والشدة، أم الأخذ بالرخصة والسهولة؟ اختلف أهل العلم في ذلك، وفصل بعضهم فيه بحسب حال المكلف وقدرته، جاء في كتاب المهذب في أصول الفقه وقواعده للدكتور عبد الكريم النملة: والحق عندي ـ والله أعلم ـ أنه لا تفضل الرخصة على العزيمة، ولا العزيمة على الرخصة؛ وذلك لأن سبب الرخصة هو العذر، والعذر من مشقة، أو ضرورة، أو حاجة يختلف بحسب الأزمان والأعمال، وقوة العزائم وضعفها، وليس كل الناس في تحمل المشاق على حد سواء، فمثلا: لو أصاب زيدا من المكلفين مرض قد يتحمله دون حاجته إلى الأخذ بالترخيص، بينما لو أصاب نفس المرض عمرا، فقد لا يتحمله فتكون الرخصة أفضل بالنسبة لعمرو، دون زيد. انتهى منه بتصرف.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة في جواب سؤال: هل الأخذ بالرخص في الدين يعتبر تجاوزا وتهاونا؟
ج 2: الأخذ بالرخصة في الدين إن كان المقصود بها الرخصة الشرعية التي شرعها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كالرخصة للمسافر الصائم أن يفطر وقت سفره، وأن يقصر المسافر الصلاة الرباعية إلى ركعتين، وأن يجمع بين صلاة الظهر والعصر، أو بين صلاة المغرب والعشاء في وقت إحداهما جمع تقديم أو تأخير أثناء سفره، وكالرخصة في المسح على الخفين، ونحو ذلك، فإن الأخذ بهذه الرخصة الشرعية في حق هؤلاء أفضل، وإن لم يأخذ بها، بل صام أثناء سفره ولم يقصر الصلاة، ولم يجمع بين الصلوات المذكورة، ولم يمسح على الخفين، بل خلعهما، وغسل الرجلين، فلا حرج ولا إثم عليه، لكنه ترك الأفضل والأولى، ويدل لذلك ما رواه ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تبارك وتعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته ـ رواه الإمام أحمد، والبزار، والطبراني في الأوسط، وفي رواية لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، رواه الطبراني في الكبير، والبزار، ورجاله ثقات، أما إن كان المراد بالأخذ بالرخص في الدين هو الأخذ بالأسهل، وما يوافق هوى الإنسان من فتاوى وأقوال العلماء، فإن ذلك غير جائز، والواجب على الإنسان أن يحتاط لدينه، وأن يحرص على إبراء ذمته، فلا يتبع إلا ما صح به الدليل من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإن كان جاهلا بالحكم فإنه يسأل أهل الذكر ممن يوثق بعلمه وفتواه، ولا يكثر من سؤال العلماء في المسألة الواحدة، فيتبع الأسهل له، وما يوافق هواه، فإن ذلك دليل على تفريطه، وإهماله لأمور دينه، وقد أثر عن بعض السلف قوله: من تتبع رخص العلماء فقد تزندق، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وعدهم الجمع هنا من الرخص التي الأخذ بها أفضل هو خلاف ما عليه جماهير أهل العلم، كما بيناه في الفتوى رقم: 73151، بعنوان: مذاهب العلماء في الجمع بين الصلاتين.
والله أعلم.