السؤال
قال أحد المشايخ على قناة تليفزيونية: مصلحة الإنسان دائما مقدمة على مصلحة الدين، فمصلحة الإنسان تقدم في الإسلام على مصلحة الدين نفسه، فلو تعارضت مصلحة الإنسان مع مصلحة الدين، قدمت مصلحة الإنسان، ويتأخر الدين، أو يتنحى الدين، أو يؤجل الدين، والمقصود بالدين هنا: العبادات، ثم بعد ذلك ضرب مثلا بالمسافر وإباحة السفر له، وقال: لأن السفر فيه مصلحة، فقدمت الشريعة مصلحة الإنسان المتمثلة في السفر على مصلحة الدين المتمثلة في الصيام، ومثل قضية: صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ـ إنما مصلحة المجتمع أن لا تلصق على العربيات، فقدمت مصلحة المجتمع وقلنا بنزع الشعارات عن العربيات، فما صحة هذا الكلام؟ وهل الموضوع بهذا الإطلاق حتى ولو كان في العبادات؟.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهناك ضروريات أو كليات خمس اتفقت الشرائع السماوية وأصحاب العقول السليمة على احترامها وصيانتها، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسب أو العرض، والمال، وترتيب هذه الضروريات والمفاضلة بينها بحث طويل، وللعلماء فيه تفاصيل يصعب استقصاؤها هنا، لكن الأكثر على تقديم حفظ الدين على ما عداه، وإن كان الأمر متعلقا بأصل الدين فلا ريب عندئذ في أن حفظه مقدم على غيره، وراجع في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 49522، 221650، 169691.
وقال ابن مفلح في أصول الفقه: المقاصد الضرورية الخمسة تقدم على غيرها... وحفظ الدين على الأربعة، لأن ثمرته سعادة الآخرة، وغيره قصد لأجله، لقوله: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ـ وقيل: الأربعة، لأنه حق آدمي يتضرر به، ولهذا قدم القود على قتل الردة، ومصلحة النفس في تخفيف صلاة عن مريض ومسافر، وأداء صوم وإنجاء غريق وحفظ المال بترك جمعة وجماعة، وبقاء الذمي مع كفره، رد: قدم القتل، لأن فيه حقين، ولا يفوت حق الله بالعقوبة البدنية في الآخرة، وفي التخفيف عنهما تقديم على فروع الدين لا أصوله، ثم: هو قائم مقامه، يعني: مشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر، وكذلك صلاة المريض قاعدا بالنسبة إلى صلاته ـ وهو صحيح ـ قائما، فلم يختلف المقصود، وكذا غيرهما، وبقاء الذمي من مصلحة الدين، لاطلاعه على محاسن الشريعة، فيسهل انقياده، كما في صلح الحديبية وتسميته فتحا مبينا. اهـ.
هذا من حيث الإجمال، وأما تفصيل ما ورد في السؤال، فالرخصة للمسافر في الفطر ليست تقديما لمصلحة الإنسان على مصلحة الدين! وإنما فيها مراعاة الدين لأحوال الإنسان وما يعتريه من الأمور الطارئة، ثم إن هذا الإفطار شرع مع بدل القضاء، كما قال تعالى: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون {البقرة: 185}.
قال السعدي: أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهلها أشد تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله، وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله، سهله تسهيلا آخر، إما بإسقاطه، أو تخفيفه بأنواع التخفيفات..: ولتكملوا العدة ـ وهذا والله أعلم، لئلا يتوهم متوهم، أن صيام رمضان، يحصل المقصود منه ببعضه، دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته، ويشكر الله تعالى عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده... اهـ.
فمن أفطر في سفره فهو قابل لرخصة الله تعالى، وهذا أحد أوجه العمل بالدين، فأين تأخير الدين وتقديم غيره عليه؟ بل أين التعارض أصلا بين الدين ومصلحة العبد؟!
وأما قضية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والحكم بأن كتابتها على السيارة يتعارض مع مصلحة المجتمع: فمما يطول منه العجب!!! والزج بهذا المثال في قضية المفاضلة بين الضروريات الخمسة: خطأ من أصله، وكان اللائق أن يقال: إن نشر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والحث عليها والتذكير بها، مما يصلح به حال المجتمع، لما في ذلك من فضيلة في ذاته، ولما فيه من التذكير بالأسوة الحسنة التي لا يصلح المجتمع إلا بالتأسي بها والسير على منهاجها، وتفصيل ذلك ليس هنا مجاله، ونسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يبصرهم بدينهم، ويوفقهم لما يحب ويرضى.
والله أعلم.