السؤال
قبل أيام قمت بالإصرار على أبي ـ وهو بطبعه عصبي ـ فحلف أنه لن يذهب بي إلى مكان، وبعد أيام طلبت منه أن أذهب إلى نفس المكان لكن في موقع آخر، ولا أدري عن نيته عندما حلف، فوافق لأنه يعرف أن هذا الشيء مهم بالنسبه لي وذهب بي إلى المكان الذي أريده, فما هو الحكم المترتب على أبي مع العلم أنه كان غاضبا وقتها، ولما وافق أخبرته ونحن بالسيارة أنه قد حلف؟ وما هو الحكم المترتب علي لكوني السبب في حنثه؟ وهل توجد كفارة؟ وعلى من؟ وهل علي أم على أبي؟ وهل يختلف الحكم هنا إذا كانت نيته بالحلف أنه لن يذهب بي لسبب، فلما اختلف السبب قرر أن يذهب بي؟ وهل يختلف الحكم إذا كانت نيته أنه لن يذهب بي إلى هذا المكان في الموقع الآخر وهو لم يذهب بي إلى الموقع الآخر؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يجوز الإصرار على الوالد بما يفضي لإغضابه، ولكن يمين الغضبان تعتبر يمينا منعقدة مادام يعي ما يقوله، ففي الموسوعة الفقهية: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الغضبان مكلف في حال غضبه، ويؤاخذ بما يصدر عنه من كفر وقتل نفس وأخذ مال بغير حق وطلاق وغير ذلك من عتاق ويمين، قال ابن رجب في شرح الأربعين النووية: ما يقع من الغضبان من طلاق وعتاق ويمين، فإنه يؤاخذ به، وقال ابن حزم في المحلى: والحالف في الغضب معقد ليمينه فعليه الكفارة. اهـ.
وأما عن النية في الموقع الذي حلف أن لا يذهب بك إليه: فإن اليمين على نية الحالف، فينبغي سؤال الوالد عن نيته فيما حلف عليه، فإن النية تخصص اللفظ العام وتقيد اللفظ المطلق، إذا كان اللفظ يحتمل ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. متفق عليه.
وقال الشيخ خليل بن إسحاق المالكي في مختصره: وخصصت نية الحالف وقيدت. انتهى.
وقال ابن قدامة في المغني: ويرجع في الأيمان إلى النية ـ وجملة ذلك أن مبنى اليمين على نية الحالف، فإذا نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه، سواء كان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا له، فالموافق للظاهر أن ينوي باللفظ موضوعه الأصلي قبل أن ينوي باللفظ العام العموم، وبالمطلق الإطلاق، وبسائر الألفاظ ما يتبادر إلى الأفهام منها والمخالف يتنوع أنواعا: أحدها أن ينوي بالعام الخاص.. ومنها أن يحلف على فعل شيء أو تركه مطلقا وينوي فعله أو تركه في وقت بعينه، ومنها أن ينوي بيمينه غير ما يفهمه السامع منه ـ كما ذكرنا في المعاريض ـ ومنها أن يريد بالخاص العام... اهـ.
ثم إن عدوله عما حلف عليه مباح، بل هو أولى إن كان في ذلك مصلحة، وعليه حينئذ أن يخرج كفارة يمين، لقوله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه. رواه مسلم.
وكفارة اليمين مبينة في الفتوى رقم: 26595.
وأما عن السبب واختلاف الحكم بشأنه، فإن كان للوالد سبب معين، هو الباعث على القسم فيعتبر مثل النية، لأن النية تخصص اليمين وتقيده كما قدمنا، وهذا هو ما يسمى ببساط اليمين ـ وهو السبب الباعث عليها ـ فإنه يخصص اليمين ويقيدها، فقد جاء في الشرح الكبير للشيخ أحمد الدردير عند قول: ثم بساط يمينه... ثم إن عدمت النية أو لم تضبط خصص اليمين وقيد بالبساط، وهو السبب الحامل على اليمين، إذ هو مظنة النية وليس هو انتقالا عنها، ومثلوا لذلك بمن أراد أن يشتري شيئا فوجد عليه الزحام، فحلف ألا يشتريه في ذلك اليوم، وبعد قليل خفت الزحمة أو وجده في مكان آخر لا زحام فيه فاشتراه، فإنه لا يحنث، لأن السبب الذي حمله على اليمين هو الزحام وقد زال. اهـ.
وقال ابن عبد البر في الكافي: الأصل في هذا الباب مراعاة ما نوى الحالف، فإن لم تكن له نية نظر في بساط قصته وما أثاره على الحلف، ثم حكم عليه بالأغلب من ذلك في نفوس أهل وقته. اهـ.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين بعد أن ذكر أقوال العلماء ونقل نصوصهم الدالة على اعتبار البساط، قال رحمه الله تعالى: والمقصود أن النية تؤثر في اليمين تخصيصا وتعميما، والسبب يقوم مقامها عند عدمها، ويدل عليها فيؤثر ما تؤثره، وهذا هو الذي يتعين الإفتاء به. اهـ.
وقد نظم بعضهم في ذلك أبياتا قال فيها:
يجري البساط في جميع الحلف وهو المثير لليمين فاعرف
إن لم يكن نوى وزال السبب ولم يكن لحالف ينتسب.
والله أعلم.