الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا التفسير ليس بسديد، ولم يقله أحد من أئمة التفسير وأهل العلم ـ فيما اطلعنا عليه ـ ويرد هذا الفهم للآية، والتفريق بين الأجلين: المسمى والمقضي، قوله تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى {الزمر: 42}.
وكذلك قوله تعالى في سورة الأنعام نفسها: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى {الأنعام: 60}.
فالموت حتف الأنف بقضاء، والأجل المسمى بقضاء! قال ابن كثير: قوله: ليقضى أجل مسمى ـ يعني به: أجل كل واحد من الناس. اهـ.
وقال ابن عطية: المراد بالأجل آجال بني آدم. اهـ.
وقال السعدي في تفسير هذه الآية: ثم لا يزال سبحانه وتعالى هكذا يتصرف فيهم، حتى يستوفوا آجالهم، فيقضى بهذا التدبير أجل مسمى، وهو: أجل الحياة، وأجل آخر فيما بعد ذلك، وهو البعث بعد الموت. اهـ.
وهذان الأجلان هما المذكوران في أول السورة في قوله تعالى: هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده {الأنعام: 2}.
على خلاف بين أهل العلم في ذلك، قال الماوردي في النكت والعيون: في هذين الأجلين أربعة أقاويل:
أحدها: أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الحياة إلى الموت، والأجل الثاني المسمى عنده أجل الموت إلى البعث، قاله الحسن وقتادة.
الثاني: أن الأجل الأول الذي قضاه أجل الدنيا، والأجل الثاني المسمى عنده ابتداء الآخرة، قاله ابن عباس ومجاهد. والثالث: أن الأجل الأول الذي قضاه هو حين أخذ الميثاق على خلقه في ظهر آدم، والأجل الثاني المسمى عنده الحياة في الدنيا، قاله ابن زيد.
والرابع: أن الأجل الذي قضاه أجل من مات، والأجل المسمى عنده أجل من يموت بعده، قاله ابن شجرة. اهـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: فيه ستة أقوال:
أحدها: أن الأجل الأول: أجل الحياة إلى الموت، والأجل الثاني: أجل الموت إلى البعث، روي عن ابن عباس، والحسن وابن المسيب، وقتادة، والضحاك، ومقاتل.
والثاني: أن الأجل الأول: النوم الذي تقبض فيه الروح، ثم ترجع في حال اليقظة، والأجل المسمى عنده: أجل موت الإنسان، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن الأجل الأول: أجل الآخرة متى يأتي، والأجل الثاني: أجل الدنيا، قاله مجاهد في رواية.
والرابع: أن الأول: خلق الأشياء في ستة أيام، والثاني: ما كان بعد ذلك إلى يوم القيامة، قاله عطاء الخراساني.
والخامس: أن الأول: قضاه حين أخذ الميثاق على خلقه، والثاني: الحياة في الدنيا، قاله ابن زيد، كأنه يشير إلى أجل الذرية حين أحياهم وخاطبهم.
والسادس: أن الأول: أجل من قد مات من قبل، والثاني: أجل من يموت من بعد، ذكره الماوردي. اهـ.
وليس في أي من هذه الأقوال ما ذكر في السؤال!! وهنا ننبه على أن أهل البدع من المعتزلة ومن وافقهم هم الذين يقطعون بأن القتل يقطع على الإنسان عمره، وأن المقتول إذا لم يقتل فإنه يستوفي عمره الذي يعلمه الله! قال السفاريني في الدرة المضية:
ومن يمت بقتله من البشر * أو غيره فبالقضاء والقدر
ولم يفت من رزقه ولا الأجل * شيء فدع أهل الضلال والخطل.
وقال في شرحه لوامع الأنوار البهية: المراد أن المقتول ميت بأجله، أي الوقت المقدر لموته، لا كما يزعم بعض المعتزلة من أن الله تعالى قد قطع عليه الأجل، والحق عند أهل الحق أن المقتول ميت في الوقت الذي قدره الله تعالى له، وعلم أنه يموت فيه، لا كما زعمت المعتزلة أنه قد قطع عليه الأجل، يعني لم يوصله إليه، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه لولا القتل، فهم يقطعون بامتداد العمر لولا القتل، وحاصل النزاع أن المراد بالأجل المضاف زمان تبطل فيه الحياة قطعا من غير تقدم ولا تأخر، فهل يتحقق ذلك في المقتول أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات، وإن لم يقتل فيعيش إلى وقت هو أجل له؟ فعندهم القاتل قد قطع عليه الأجل، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه لولا القتل، وزعم أبو الهذيل منهم أنه لو لم يقتل لمات في ذلك الوقت البتة، وقول غيره لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت وأن لا يموت، وهو مذهب أهل السنة، يعني إلى أجله الذي إذا جاء لا يتأخر عنه ولا يتقدم كما قال تعالى: إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون {يونس: 49} وقال الكعبي منهم: إن المقتول تبطل حياته بأجل القتل، وليس المقتول بميت، فيخص الموت بما لا يكون على وجه القتل، على ما يشعر به قوله تعالى: أفإن مات أو قتل {آل عمران: 144}الآية، لكن المعنى مات حتف أنفه، فمجرد بطلان الحياة موت، والحاصل أن المقتول مات بأجله الذي أجله الله تعالى الذي لا يتقدم موته عليه لحظة، ولا يتأخر عنه لحظة، فإنه عز وجل حكم بآجال العباد على علم من غير تردد: فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون {الأعراف: 34} وأما الأحاديث التي فيها أن بعض الطاعات تزيد في العمر، مثل صلة الرحم ونحو ذلك.. فهذا في الصحف التي يقع فيها المحو والإثبات، وعلم الله تعالى لا يقع فيه تغيير ولا زيادة ولا نقصان كما مر آنفا، والحق أن الأجل واحد، لا كما زعم الكعبي أن للمقتول أجلين: القتل والموت، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت... اهـ.
وقال حافظ حكمي في معارج القبول: الإيمان بالموت يتناول أمورا... منها: أن كلا له أجل محدود وأمد ممدود ينتهي إليه لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، وقد علم الله تعالى جميع ذلك بعلمه الذي هو صفته، وجرى به القلم بأمره يوم خلقه، ثم كتبه الملك على كل أحد في بطن أمه بأمر ربه عز وجل عند تخليق النطفة في عينه، في أي مكان يكون وفي أي زمان، فلا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يغير ولا يبدل عما سبق به علم الله تعالى وجرى به قضاؤه وقدره، وأن كل إنسان مات أو قتل أو حرق أو غرق أو بأي حتف هلك بأجله، لم يستأخر عنه ولم يستقدم طرفة عين، وأن ذلك السبب الذي كان فيه حتفه هو الذي قدره الله تعالى عليه وقضاه عليه وأمضاه فيه ولم يكن له بد منه ولا محيص عنه ولا مفر له ولا مهرب ولا فكاك ولا خلاص، وأنى وكيف وإلى أين ولات حين مناص، قال الله تعالى: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها { آل عمران: 145}الآية، وقال تعالى: قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم {آل عمران: 154}الآيات، وقال تعالى: أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة {النساء: 78} وقال تعالى: حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين {الأنعام: 61} وقال تعالى: ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون {الأعراف: 34} في مواضع من القرآن, وقال تعالى: كل يجري لأجل مسمى {الرعد: 2} وقال تعالى: ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى {طه: 129}وقال تعالى: وكل شيء عنده بمقدار {الرعد: 8} وقال تعالى: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون {الجمعة: 8} وقال تعالى: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون {الزمر: 42}وقال تعالى: وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون {الأنعام: 60} وغيرها من الآيات، وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة رضي الله عنها: اللهم متعني بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك سألت الله تعالى لآجال مضروبة وآثار موطوءة وأرزاق مقسومة، لا يعجل شيء منها قبل حله، ولا يؤخر منها يوما بعد حله... اهـ.
وقال أبو الحسن الأشعري في الإبانة عن أصول الديانة: فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافعة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون، قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل ـ نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولما خالف قوله مخالفون ـ إلى أن قال: ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات وقتل فبأجله مات وقتل.. اهـ.
وأما الاستشهاد بقوله تعالى: وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب {فاطر: 11} فلا يصح، وليس في هذه الآية أن هناك أجلين، وإنما المعنى، كما قال ابن كثير: أي: ما يعطى بعض النطف من العمر الطويل يعلمه، وهو عنده في الكتاب الأول: ولا ينقص من عمره ـ الضمير عائد على الجنس، لا على العين، لأن العين الطويل للعمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره، وإنما عاد الضمير على الجنس، قال ابن جرير: وهذا كقولهم: عندي ثوب ونصفه ـ أي: ونصف آخر، وروي من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ـ يقول: ليس أحد قضيت له طول عمر وحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت ذلك له، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه، وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ للعمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله: ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ـ يقول: كل ذلك في كتاب عنده، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم. اهـ.
وراجع لتمام الفائدة الفتاوى التالية أرقامها: 9027، 23751، 139629، 199285.
وأخيرا ننبه على أن هذا الفهم المذكور في السؤال قد قال به بعض أهل البدع الذين يقولون بالبداء على الله، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 21570.
والله أعلم.