الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكثير من الخلافات والإشكالات تقع نتيجة لعدم إدراك مراد المتكلم، أو لسوء تعبيره، فتجد الطرفين مشتركين في الخطأ فالمتكلم لم يحرر كلامه ولم يتخير ألفاظه، والمستمع لم يتدبره فحمله على غير مراده! ولذلك كان من المهم في مواضع الإشكال أن يفرق المستمع بين صحة المعنى وخطأ اللفظ، وبين الخطأ فيهما جميعا، وكذلك أن يتحرى المتكلم إصابة اللفظ كما يتحرى إصابة المعنى، فيبتعد عن الموهم والمحتمل والمجمل ونحو ذلك مما يشتبه! قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: كل لفظ يحتمل حقا وباطلا، فلا يطلق إلا مبينا به المراد الحق دون الباطل، فقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وكثير من نزاع الناس في هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة التي يفهم منها هذا معنى يثبته، ويفهم منها الآخر معنى ينفيه. اهـ.
وبخصوص الحوار المذكور نرى تقصيرا من كلا المتحاورين، فالأول عبر بألفاظ مستنكرة في حق النبي صلى الله عليه وسلم، لما في بعضها من الإجمال المخل، وما في بعضها من ألفاظ لا تليق بمقام النبوة، كقوله في حق سمية: فلم ينصرها حتى بالدعاء بالفرج ـ فهذا قطع في غير محله، فإن عدم النقل هنا لا يدل على عدم الفعل، وعدم العلم ليس علما بالعدم! وكذلك في قصة خباب، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ولكنكم تستعجلون ـ ليس فيه النص على ترك الدعاء وإنما فيه عدم ذكر الدعاء، قال ابن حجر في فتح الباري: ليس في الحديث تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم لم يدع لهم بل يحتمل أنه دعا، وإنما قال: قد كان من قبلكم يؤخذ... إلخ، تسلية لهم وإشارة إلى الصبر... اهـ.
ومما لا مجال للخلاف فيه أن الدعاء في مثل هذا الموطن مطلوب بشدة، فإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم بعد ذلك، أو يكون ذلك خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما علمه الله تعالى من الغيب، قال ابن بطال في شرح البخاري: فيه من الفقه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الدعاء في ذلك على أن الله أمرهم بالدعاء أمرا عاما بقوله: ادعوني أستجب لكم {غافر: 60 } وبقوله: فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا {الأنعام: 43}إلا لأنه صلى الله عليه وسلم علم من الله أنه قد سبق من قدره وعلمه أنه يجرى عليهم ما جرى من البلوى والمحن ليؤجروا عليها على ما جرت عادته في سائر أتباع الأنبياء من الصبر على الشدة في ذات الله، ثم يعقبهم بالنصر والتأييد، والظفر وجزيل الأجر، وأما غير الأنبياء فواجب عليهم الدعاء عند كل نازلة تنزل بهمن لأنهم لا يعلمون الغيب فيها. اهـ.
وقد ثبت دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمستضعفين، ودعاؤه على الكافرين، في غير هذا الحديث، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا رفع رأسه من الركعة الآخرة يقول: اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف. رواه البخاري.
وزاد مسلم وأبو داود: قال أبو هريرة: وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يدع لهم، فذكرت ذلك له فقال: وما تراهم قد قدموا.
قال العظيم آبادي: قد قدموا ـ أي الوليد وسلمة وغيرهما من ضعفاء المسلمين، من مكة إلى المدينة، نجاهم الله من دار الكفار، وكان ذلك الدعاء لهم لأجل تخليصهم من أيدي الكفرة وقد خلصوا منهم وجاؤوا بالمدينة، فما بقي حاجة بالدعاء لهم بذلك. اهـ.
على أن ذكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لم يأت نصا، وإنما فهمه طوائف من أهل العلم من وصف النبي صلى الله عليه وسلم باحمرار الوجه، قال العيني في عمدة القاري: قوله: وهو محمر وجهه ـ قيل: من أثر النوم وقال ابن التين: من الغضب، وهو الأوجه. اهـ.
وأما حال أبي جندل وغيره من المستضعفين، وقبول النبي صلى الله عليه وسلم لشرط قريش ردهم إلى مكة، دون العكس ممن يرتد إلى قريش من المسلمين، فقد بين صلى الله عليه وسلم وجهته، وذلك في ما رواه أنس: من أن قريشا اشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا. رواه مسلم.
فقول القائل: فما يكون منه إلا أن رده إلى الكفار ـ يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ما في وسعه لتخليص أبي جندل، وأنه لم يكن هناك عهد يجب الوفاء به، وهذا على خلاف الواقع، فقد جاء في إحدى روايات الصلح: فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ثم قال يا محمد قد لجت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذان قال: صدقت، فقام إليه فأخذ بتلبيبه، وصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معاشر المسلمين أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني؟ فزاد الناس شرا إلى ما بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل! اصبر واحتسب، فإن الله عز وجل جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا وإنا لن نغدر بهم. رواه أحمد وغيره.
وكذلك قصة صفوان، ذكرها على النحو المذكور في السؤال موهم، لعدم ذكر العلة، وهي تأليف قلوب من يرجى إسلامه من الكفار، وفي الصحيحين عن أنس: أن ناسا من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء فطفق يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم! قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم أحدا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان حديث بلغني عنكم؟ قال له فقهاؤهم: أما ذووا آرائنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويترك الأنصار وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أعطي رجالا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به.
قال ابن حجر: المراد بالمؤلفة ناس من قريش أسلموا يوم الفتح إسلاما ضعيفا، وقيل: كان فيهم من لم يسلم بعد، كصفوان بن أمية. اهـ.
وكذلك أيضا تسمية المعاهدات التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم بالصفقات، لا يصح، لما اقترن بهذا اللفظ من معان عرفية مذمومة.
وأما الطرف الآخر في الحوار ـ وهو السائل ـ فكأنه ضرب صفحا عن الاحتجاج بهذه المواقف والأحوال النبوية، وأعرض عن ما فيها من الدلالات الفقهية والحجج الشرعية، والتي تدور في مجملها على مراعاة الإسلام لحال القوة والضعف والقدرة والعجز، ثم إقامة ميزان المصالح والمفاسد، والنظر في مآلات الأمور، عند استنباط الأحكام الشرعية وتنزيلها على الواقع، بعيدا عن اتباع الهوى والأذواق المجردة، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 194295.
هذا مع ما في كلام السائل هو الآخر من إيهام وإجمال في بعض المواضع، كقوله عمن خذل فتاة مسلمة إنه: إما منافق ديوث، وإما كافر ـ فقد أهمل حال سكوته لكونه مستضعفا، مع إنكاره بقلبه، فهذا لا يوصف بنفاق أو دياثة فضلا عن الكفر!! كما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها. رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
وقوله صلى الله عليه وسلم: إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. رواه مسلم.
قال السيوطي في الديباج: أي هو المؤاخذ المعاقب. اهـ.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: من ضعف لزمه التغيير بقلبه، فإن لم يغير بقلبه فقد رضي وتابع. اهـ.
ومن ذلك قول السائل: حيث كان المسلمون مأمورين بالجهر بالتوحيد ـ فهذا أيضا فيه إغفال لبعض الحالات التي يجوز فيها كتم الإيمان، كحال المكره الذي لم يبح له كتمان إيمانه فحسب، بل أبيح له التكلم بالكفر وإرضاء الكافرين بلسانه مادام قلبه مطمئنا بالإيمان، وهذا هو العمل بالتقية عند الضرورة، وعلى ذلك حمل بعض أهل العلم رد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل إلى كفار مكة، قال الخطابي في معالم السنن: في إجابته صلى الله عليه وسلم إياهم إلى ذلك: أن يرد إلى الكفار من جاءه منهم مسلما، دليل على جواز أن يقر الإمام فيما يصالح عليه العدو ببعض ما فيه الضيم على أهل الدين، إذا كان يرجو لذلك فيما يستقبله عاقبة حميدة، سيما إذا وافق ذلك زمان ضعف المسلمين عن مقاومة الكفار وخوفهم الغلبة منهم. اهـ.
ثم ذكر الخطابي تأويل العلماء لما وقع في قصة أبي جندل، وذكر فيه وجهين:
أحدهما: أن الله قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الإيمان إن لم يمكنه التورية فلم يكن رده إليهم إسلاما لأبي جندل إلى الهلاك مع وجوده السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية.
والوجه الثاني: أنه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به الهلاك وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا، وأما ما يخاف عليه من الفتنة، فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين. اهـ.
ونقل ذلك جماعة من الشراح كابن الملقن وابن حجر والعيني والقاري والشوكاني، وهذا الفعل ونحوه مما كان في صلح الحديبية قد سماه بعض الصحابة من أمثال عمر بن الخطاب: دنية، وتساءل: لم نعطي الدنية في ديننا؟ ولا يخفى أن الحامل له على ذلك: غيرته على دينه، وقوته في نصرة الحق وأهله، وبغضه للكفر وأهله! ومع ذلك فقد تبين خطؤه وندم على ذلك وقال: فعملت لذلك أعمالا ـ قال ابن حجر: المراد به الأعمال الصالحة ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء. اهـ.
وراجع للفائدة الفتاوى التالية أرقامها: 163801، 185765، 243988.
والمقصود أن الحق وسط بين طرفين، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا جفاء، ولا تهدر دلالات النصوص ولا تحمل ما لا تحتمله.
والله أعلم.