السؤال
ما هي طريقة السلف في تحفيظ أبنائهم القرآن في المراحل العمرية التالية:
- من 6 : 12 سنة.
- من 15 : 25 سنة.
حيث قرأنا أن الواحد منهم كان يبكي آخر حياته على مفارقة قيام الليل، ويتلذذون بتلاوة القرآن، ويفهمون معانيه، ويتدبرونه حق التدبر.
فكيف نوصل هذه الأمور إلى الفئات العمرية التي ذكرتها لكم، ليصلوا إلى ما وصل إليه السلف، فينالوا جنة الدنيا والآخرة، ويكون معهم الحصن الذي يحميهم من شهوات هذا الزمان -بإذن الله-؟
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فقد أحسنت حين سألت عن طريقة السلف في تعليم القرآن، فهي أمثل الطرق، وقد بينا شيئا من ذلك بالفتوى رقم: 249112، وبينا فيها أن التعليم التلقيني الانتظامي كالتحفيظ، ونحوه، مبني على مدى استعداد ذهن الصبي؛ فلا يحتاج إلى التشديد عليه، ونقلنا كلاما للسلف في هذا الباب، ومنه قول إبراهيم حيث قال: كانوا يكرهون أن يعلموا أولادهم القرآن حتى يعقلوا. انتهى.
وفي رواية، قال: وكانوا يستحبون أن يكون للغلام صبوة. (قال الخطابي: ميل إلى الهوى).
وبينا أن الأمر يدور بحسب قدرة الطفل وانشراحه، وإلا فالشافعي، وسهل التستري، وغيرهما، نقل عنهم أنهم ختموا القرآن وهم أبناء سبع أو نحوها، فالعلة هي ما يستطيعه الطفل مع الرفق به. وانظر للفائدة الفتوى رقم: 117488.
وأما بخصوص ربطهم بالقرآن علما، وعملا، وحالا، فيحتاجون إلى التنبيه على ذلك؛ قال ابن أبي زيد في الرسالة: "وأولى ما عنى به الناصحون، ورغب في أجره الراغبون، إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين ليرسخ، وتنبيههم على معالم الديانة، وحدود الشريعة..." انتهى.
ولكن في الصغار أمثل الطرق هي: القدوة لا الكلام؛ قال ابن الجوزي في صفة الصفوة: "وعن نهشل بن كثير عن أبيه قال: أدخل الشافعي يوما إلى بعض حجر هارون الرشيد، ليستأذن له، ومعه سراج الخادم، فأقعده عند أبي عبد الصمد مؤدب أولاد هارون الرشيد، فقال سراج للشافعي: يا أبا عبد الله: هؤلاء أولاد أمير المؤمنين، وهذا مؤدبهم، فلو أوصيته بهم. فأقبل عليه، فقال: ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك؛ فإن أعينهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تكرهه، علمهم كتاب الله، ولا تكرههم عليه فيملوه، ولا تتركهم منه فيهجروه، ثم روهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أشرفه، ولا تخرجهم من علم إلى غيره حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم." انتهى.
وكذلك تقريب الأمور المعنوية بصورة حسية حتى يعقلها؛ أورد أبو نعيم في الحلية: "عن كعب الأحبار، قال: قال لقمان الحكيم -فيما يعظ به ابنه-: يا بني: أقم الصلاة؛ فإن مثلها في دين الله كمثل عمود فسطاط، فإن العمود استقام، نفعت الأوتاد، والأطناب، والظلال، فإذا مال العمود أو تغير، لم ينفع وتد، ولا طنب، ولا ظلال. يا بني: وإنما مثل الأدب الحسن، كمثل طاق في جدار، بين كل طبقتين خشب مغروس، فكلما تحات طبقة، أمسكه خشبه -بإذن الله-. إن الله إذا سجد له شيء، لم يقلع من نظر الله، فإذا قال: يا رب يا رب، سمع نداءه وأجابه، وكن عبدا لمن صاحبك يكن لك عبدا، ولا تصاعر خدك للناس فيبغضوك، والله أشد منهم مقتا، وتصدق يا بني من فضل ما أعطاك ربك، يزدك من فضـله، ويطفئ عنـك غضبه، وارحم الجار الفقير والمسكين، والمملوك والأسير والخائف، واليتيم فأدنه وامسح رأسه، فإن الله يرحمك إذا رحمت عباده." انتهى.
وقال الغزالي في الإحياء: "قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل، فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، فقال لي يوما: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ قال: قل بقلبك، عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات، من غير أن تحرك به لسانك: الله معي، الله ناظر إلي، الله شاهدي. فقلت ذلك ليالي، ثم أعلمته، فقال: قل في كل ليلة سبع مرات. فقلت ذلك، ثم أعلمته، فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشرة مرة. فقلته، فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك، ودم عليه إلى أن تدخل القبر؛ فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يوما: يا سهل: من كان الله معه، وناظرا إليه، وشاهده، أيعصيه؟ إياك والمعصية. فكنت أخلو بنفسي، فبعثوا بي إلى المكتب، فقلت: إني لأخشى أن يتفرق على همي، ولكن شارطوا المعلم أني أذهب إليه ساعة فأتعلم، ثم أرجع، فمضيت إلى الكتاب، فتعلمت القرآن، وحفظته، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وكنت أصوم الدهر، وقوتي من خبز الشعير اثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فسألت أهلي أن يبعثوني إلى أهل البصرة لأسأل عنها، فأتيت البصرة، فسألت علماءها، فلم يشف أحد عني شيئا، فخرجت إلى عبادان إلى رجل يعرف بأبي حبيب حمزة بن أبي عبد الله العباداني، فسألته عنها، فأجابني، فأقمت عنده مدة أنتفع بكلامه، وأتأدب بآدابه، ثم رجعت إلى تستر، فجعلت قوتي اقتصادا على أن يشتري لي بدرهم من الشعير الفرق، فيطحن، ويخبز لي، فأفطر عند السحر على أوقية كل ليلة بحنا من غير ملح ولا أدم، فكان يكفيني ذلك الدرهم سنة، ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال، ثم أفطر ليلة، ثم خمسا، ثم سبعا، ثم خمسا وعشرين ليلة، فكنت على ذلك عشرين سنة، ثم خرجت أسيح في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تستر، وكنت أقوم الليل كله ما شاء الله تعالى. قال أحمد: فما رأيته أكل الملح حتى لقي الله تعالى." انتهى.
وأما الكبار: فكانوا يتعقلون، ويعملون بمعاني ما يحفظون؛ أخرج الحاكم، والبيهقي، والطحاوي في المشكل، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، يقول: "لقد عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدثنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد -صلى الله عليه وسلم- فيتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده فيها، كما تعلمون أنتم القرآن"، ثم قال : " لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما أمره، ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، ينثره نثر الدقل" اهـ.
فيمكن الاهتمام معهم بهذه المعاني، وربطهم بكتب التربية، كمختصر منهاج القاصدين، ومدارج السالكين، ونحوها، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 248998.
ومن هدي الأنبياء في ذلك: الاستعانة بالدعاء لهم؛ يقول د. محمد إسماعيل المقدم في محو الأمية التربوية:
"نفس الأنبياء كانوا يستعينون بسلاح الدعاء؛ {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} ( آل عمران:38)، {وأصلح لي في ذريتي} (الأحقاف: 15)، {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} ( الفرقان: 74). مريم لما مدحها الله، مدحها بماذا؟ {وأنبتها نباتا حسنا} (آل عمران: 37) هذا ثناء على التربية الباكرة الحسنة. فمن الأسلحة المهمة جدا في قضية التربية: الاستعانة بالدعاء، وخاصة الدعاء المذكور في القرآن الكريم أو في السنة النبوية؛ لأن هذا السلاح من أقوى الأسلحة التي اختص بها المسلمون، فهذا مجال واسع إذا أردنا أن نستقصي أنواع الأدعية في القرآن، والسنة، المتعلقة بالذرية، وصلاح الذرية، نجد من ذلك كثرة كاثرة." انتهى.
وراجع للفائدة فصل تربية الأبناء من ترتيب حلية الأولياء للهبدان، ومحو الأموية التربوية لـ د/ محمد إسماعيل المقدم.
والله أعلم.