مدى مشروعية جلسات التحكيم العرفية

0 309

السؤال

منذ سنوات كانت والدتنا المتوفاة تبحث عن شقة سكنية في المدينة، وبعد بحث طويل قدمت حجزا في جمعية إسكانية، تعمل هذه الجمعية على جمع المبالغ من أعضائها، نظير حجز شقة غير معلومة المواصفات في الأبراج التي تقوم الجمعية ببنائها، وبعد اكتمال البناء تقوم الجمعية بتسليم الشقق للحاجزين. قيمة الشقق حين التسليم تكون أعلى من قيمة المبلغ الذي يدفعه الحاجز عند الاشتراك.. بعد فترة سلمت الجمعية بعض الشقق لبعض الحاجزين، ولم تكن والدتنا المتوفاة من ضمن المستلمين، حيث تأجل استلامها لشقتها (ب) إلى إشعار آخر غير محدد، فهمت بسحب مبلغ الحجز، والبحث عن شقة مستعملة في مكان آخر، وحينئذ جاءنا أحد معارفنا من طرف خالنا، وكان حاجزا في نفس الجمعية، واستلم مع من استلموا قبلنا، وعرض علينا تبادل شقته (أ) التي تسلمها، وكانت آنذاك غير مكتملة التشطيب، ولم تدخلها المرافق، مقابل تنازلنا له عن شقتنا (ب) المحجوزة، والتي لم يتم استلامها بعد، وذلك نظرا لأن الشقة (أ) التي تسلمها صغيرة الحجم لا تلبي حاجته، وحاجة والدتنا العاجلة إلى شقة، وتم الاتفاق على ذلك في حضور خالنا وامرأته، وتم في نفس اليوم تسليم والدتنا مفاتيح الشقة (أ)، ولم يتم في هذا المجلس الاتفاق على شروط أو مدة لسريان هذا التبادل، ولم يتم أيضا الاتفاق على الإجراء إذا لم يتم تسليم الشقة الأخرى (ب) لنا، أو إذا عرفنا أن التسليم سيؤجل إلى وقت طويل لاحق.
وبناء على ذلك؛ باشرنا في إجراءات إدخال المرافق، وإتمام تشطيب الشقة (أ)، وتم ذلك في خلال سنتين، وأيضا أودع مالك الشقة (أ) مبلغا من المال في حساب الشقة (ب) المحجوزة باسم والدتنا في الجمعية بغرض الحصول على شقة أكبر.
واستقر الوضع على هذا الحال قرابة خمس سنوات منذ الاتفاق المذكور. توفيت في السنة الأخيرة منها والدتنا، وبعد ذلك قرر الطرف الثاني إلغاء الاتفاق، والمطالبة بالشقة (أ) المسجلة باسمه التي آلت إلينا، وبالمبلغ الذي أودعه في حساب حجز الشقة (ب) المسجلة باسم والدتنا، والتي اتفقنا على أن تؤول إليه عند تسليمها.
موقفنا الحالي هو: التمسك بحقنا في الشقة (أ) التي نسكنها، وفي الالتزام بالاتفاق الذي عقدته والدتنا مع الطرف الآخر، نظرا للقيمة المعنوية للشقة، ونرفض التفاوض على خروجنا منها، كما نرفض دفع ثمنها كاملا للطرف الثاني؛ حيث تغيرت الأسعار اليوم عن وقت الاتفاق، ونرى أن إلغاء الاتفاق اليوم فيه غبن لنا، حيث لو لم يتم هذا الاتفاق (والذي كانت مبادرته من الطرف الآخر) لكانت والدتنا قد اشترت شقة أخرى في مكان آخر بسعر ذلك الوقت السابق.
وموقف الطرف الثاني هو: إلغاء الاتفاق نهائيا، وما يترتب عليه، ويسترد الشقة (أ) المسجلة باسمه، بالإضافة إلى المبلغ الذي دفعه في حجز الشقة (ب) المسجلة باسم والدتنا، ويدفع تكاليف التشطيب، ونفقات إدخال المرافق إلى الشقة (أ)، ويرى أنه أسكننا شقته بنية عمل معروف في والدتنا بناء على اقتراح خالنا، وأن ذلك كان بناء على ظروف معينة هي حاجة والدتنا الملحة إلى شقة في المدينة، وحالتها النفسية السيئة بسبب تأخر تسليم الشقة (ب)، وعلى افتراض استلام الشقة (ب) في خلال عام واحد حسب ما قيل له، واليوم أمسى من المتوقع تأخر تسليم الشقة (ب) إلى سنوات عديدة لاحقة.
والوضع الآن هو: أننا نقيم بالشقة (أ)، وهي مسجلة باسم الطرف الآخر، وجميع مرافقها مسجلة باسم الطرف الآخر، والشقة (ب) لم يتم تسليمها بعد، وغير معروف متى سيتم تسليمها، وهي محجوزة باسم والدتنا المتوفاة.
مع العلم بأن اللجوء للمحاكم الرسمية يشكل حرجا على الجميع نظرا لعلاقات القرابة التي تجمع الأطراف، ويتوسطها خالنا؛ حيث هو نسيب (زوج أخت) الطرف الآخر، كما أن المحاكم الرسمية تستغرق وقتا طويلا في الحكم قد يزيد عن خمس سنوات أخرى يبقى فيها الحال على ما هو عليه لحين صدور الحكم أي إقامتنا في الشقة (أ)، ولكن يستطيع الطرف الآخر قطع المرافق عن الشقة (أ)، لأن المرافق مسجلة باسمه، كما أننا من عائلة قوية، وذات صيت في القرية.
1- ما مدى مشروعية الاتفاق المذكور بتبادل شقة معلومة بحجز شقة غير معلومة المواصفات؟
2- اقترحنا على الطرف الآخر دفع ثمن الشقة (أ) بسعرها حال استلامنا لها منه، أي: بسعرها منذ 5 سنوات بدون تشطيب أو مرافق، فهل هذا ينصفه، ويبرئ ذمتنا؟
3- ما مدى مشروعية جلسات التحكيم العرفية، والتي غالبا ما تقضي بحل وسط, وقد تراعي اعتبارات القوة القانونية، والنفوذ، وليس فقط الاعتبارات الشرعية؟ وهل ما تقضي به يكون حقا حلالا إذا كان بتراضي الأطراف؟ مع العلم أن التراضي قد يكون تحت ضغط أو يأس من الحصول على حل أفضل.
4- هل يجوز لنا الضغط -أثناء التفاوض- بأمور قانونية أو عرفية في سبيل الحصول على حقنا كله أو جله؟
5- هل على والدتنا المتوفاة أي مؤاخذة شرعية فيما جرى من التصرفات؟ وما كفارتها؟ وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فبخصوص ما سألت عنه نقول:
1- مبادلة الشقة (أ) بحجز الشقة (ب) لا تصح؛ لأن بيع المستصنع قبل قبضه لا يجوز على فرض أن العقد بين الجمعية والحاجزين عقد استصناع. هذا بالإضافة إلى أن مبادلة عين معلومة بأخرى مجهولة المواصفات على سبيل المعاوضة لا تصح عموما؛ لأنها تجري حينئذ مجرى البيع، ومن شروط صحة البيع: معرفة الثمن والمثمن. قال الكاساني في بدائع الصنائع: وأما شرائط الصحة ... ومنها: أن يكون المبيع معلوما، وثمنه معلوما علما يمنع من المنازعة، وقال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: فلا بد من كون الثمن والمثمن معلومين للبائع والمشتري وإلا فسد البيع..وعلى ذلك؛ فلا يصح هذا الاتفاق المذكور.
2- إن رضي الطرف الآخر ببيع الشقة (أ) لكم بأي سعر تتراضون عليه فلا بأس، وإلا فلا يجوز لكم إجباره على بيعها أصلا، فضلا عن بيعها لكم بالسعر المذكور إلا برضاه. فإن أبى إلا أخذ شقته، فهي له، ويرد لكم ما دفعتموه في التشطيب والمرافق، وتردون إليه شقته إضافة إلى أجرة المثل عن المدة التي استخدمتموها فيها. جاء في الإنصاف للمرداوي الحنبلي: "المقبوض بعقد فاسد لا يملك به، ولا ينفذ تصرفه فيه على الصحيح من المذهب ...فعلى المذهب يضمنه، كالغصب، ويلزمه رد النماء المنفصل والمتصل، وأجرة مثله مدة بقائه في يده." انتهى.
3- جلسات التحكيم العرفية داخلة في مجال الصلح وهو مشروع ما لم يحرم حلالا أو يحل حراما، فمدى مشروعيتها بحسب التزامها بتحكيم شرع الله سبحانه، والتزام العدل بين المتحاكمين، فإن كانت لا تلتزم بشرع الله، أو كان فيها هضم لحق الضعيف أمام القوي، فلا يجوز التحاكم إليها أصلا، وحكمها جائر باطل، غير نافذ شرعا. قال العلامة النفراوي المالكي في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني المالكي: أما إن كان الصلح مخالفا للشرع، فإنه يكون فاسدا، ومن ثم فإنه ينقض؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا، أو أحل حراما. رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح، وصححه الحاكم. انتهى. والصلح المحرم لا يجعل الحرام حلالا، ومجرد موافقة الطرف الأضعف على الحكم الجائر لا يصيره حلالا في حق الطرف الآخر؛ لأنه وافق عليه مكرها تحت ضغط، لكن إن رأى التنازل باختياره عن بعض حقه قطعا للنزاع والخصومة، فله ذلك.

4- إن لم تستطيعوا أن تحصلوا على حقكم إلا عن طريق الضغط بأمور قانونية أو عرفية، فيجوز لكم ذلك -إن شاء الله-، على ألا تأخذوا أكثر من حقكم المشروع. وانظر الفتوى رقم: 38757.
5- إن كانت الوالدة -رحمها الله- جاهلة بعدم شرعية ما فعلت، فلا تؤاخذ -إن شاء الله-؛ لعموم الأدلة القاضية بالعذر بالجهل في نحو تلك الأمور. وانظر الفتوى رقم: 156483، وإحالاتها.

وعليكم الآن إصلاح ما يمكن إصلاحه من الحال المذكور، كما سبق بيانه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة