حكم من يسأل عن سبب عدم جعل الله جميع البشر مسلمين

0 704

السؤال

لماذا لم يخلق الله جميع البشر مسلمين؟ دائما أفكر بهذا السؤال، وأخشى أن أخرج من الملة بسببه، فأنا أؤمن بقلبي، لكن عقلي يطرح هذه الأسئلة، فهل هذا يخرجني من الملة؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الله -سبحانه وتعالى- قد فطر الناس على التوحيد، فطرة الله التي فطر الناس عليها، وقد أخذ عليهم الميثاق قبل أن يولدوا: أن لا يعبدوا غيره، وبين لهم طريق الخير كما بين لهم طريق الشر, وترك لهم الاختيار، فقال الله تعالى: وهديناه النجدين {البلد:10}، وقد مكن الله الإنسان من الاختيار، وجعل له قدرة وعقلا، وهداه النجدين، وهو يختار بمشيئته أي الطريقين شاء، كما قال تعالى: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر { الكهف: 29 }, وقال: إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا { المزمل: 19 }, وقال: فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا {النبأ: 39 }، وقال: كلا إنها تذكرة* فمن شاء ذكره { عبس: 11ـ 12 }, وقال تعالى: فألهمها فجورها وتقواها {الشمس:8}. 

ثم كان من تمام رحمة الله تعالى, وجميل إحسانه إلى خلقه: أن أرسل إليهم رسله؛ ليردوا ضالهم إليه، ويبشروهم بما أعد للمطيع، ويحذروهم مما أعد للعاصي، وأيد الله تعالى أولئك الرسل بالحجج القاطعة، والبراهين الظاهرة، والمعجزات الباهرة، الدالة على صدقهم فيما يخبرون عن ربهم، وما من أمة إلا خلا فيها نذير. قال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما{النساء:165}. 
ولكن بعض البشر جاءتهم الشياطين الإنسية والجنية فاجتالتهم عن دينهم الذي فطرهم الله عليه, وجعل فيهم قابلية الأخذ به، فاستجابوا لهم, وامتنعوا عن طاعة الرسل واتباعهم, وأبى أكثرهم إلا أن يشركوا بالله، كما فعل قوم ثمود الذين قال الله عنهم في كتابه: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون* ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون [فصلت:17-18]. 
 قال ابن كثير في تفسير آية الأعراف: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين {الأعراف:172} قال -رحمه الله تعالي-: 

  يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو كما أنه تعالى فطرهم على ذلك, وجبلهم عليه، قال الله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله. وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه, وينصرانه, ويمجسانه. وفي رواية: على هذه الملة. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. انتهى.

ونقل ابن كثير أيضا عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ موقوفا قال: إن الله مسح صلب آدم، فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وتكفل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به، نفعه الميثاق الأول، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به, لم ينفعه الميثاق الأول، ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة. اهـ.
وقال ابن كثير أيضا في تفسير قوله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله:

يقول تعالى: فسدد وجهك، واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، ولازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره. وذكر أن الله ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، لا يولد أحد إلا على ذلك، ولا تفاوت بين الناس في ذلك. اهـ.
ثم اعلم أن الله تعالى لما انحرف الناس عن التوحيد، بعث خيرة خلقه، وهم رسله الكرام -عليهم الصلاة والسلام- مبشرين بوعد الله من أطاعه، ومنذرين من وعيده من عصاه، فكان من الناس من أطاع الرسل، ومنهم من اتبع الشيطان, واغتر بأكاذيبه وغروره. قال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين [البقرة:213]، وقال تعالى: ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين * ولقد أرسلنا فيهم منذرين [الصافات:71، 72].
وقال تعالى إخبارا عن إبليس وهو يخطب أمام جماهيره في النار: وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل [إبراهيم:22].

ولله الحكمة التامة فيما قضى وقدر، وقد قال سبحانه: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون [النحل:93]. فله الحكمة التامة في وجود إبليس، ووجود الكفرة والفسقة، ليحصل الابتلاء، وتظهر العبودية من أوليائه وأحبابه، كما قال: ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير [الشورى:8]، وقال: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [يونس:99].

قال ابن كثير -رحمه الله-: (وقوله: { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } أي: إما على الهداية أو على الضلالة، ولكنه تعالى فاوت بينهم، فهدى من يشاء إلى الحق، وأضل من يشاء عنه، وله الحكمة والحجة البالغة؛ ولهذا قال: { ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير }) انتهى.

ومجرد تساؤلك عن الحكمة من خلق الله الناس على نحو ما تقدم من الاختلاف والتباين: لا تأثمين به. 
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة