الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الكلام على إحداث التفصيل في الأحكام الشرعية أو استنباط قاعدة جديدة كلاهما فرع عن مسألة حجية دليل الإجماع ومنع مخالفته، فإن قيل: إن في المسألتين خرقا للإجماع؛ فيحكم بالمنع، ومتى قيل: إنه ليس فيهما خرق للإجماع؛ فليس فيهما منع من هذه الجهة.
وقولك: (هل يمكن أن يكون حكم عمل معين لم يقل به أحد من العلماء السابقين، كأن يقول بعض العلماء: إنه سنة. وآخرون يقولون: إنه واجب. وهو في حقيقة الأمر سنة في حالات معينة، وواجب في حالات أخرى لم يذكرها من قبل أحد من العلماء؟) هذه مسألة يبحثها الأصوليون، وهي: إذا اختلف العلماء على قولين هل يجوز إحداث تفصيل بين ذينك القولين؟ وقد اختلفوا في ذلك، جاء في التحبير شرح التحرير للمرداوي: قوله: {وإن اختلفوا في مسألتين على قولين إثباتا ونفيا فلمن بعدهم التفصيل عند القاضي، وغيره، وحكي عن الأكثر}. حكاه بعض أصحابنا عن أكثر العلماء. نقله ابن مفلح.
ومنع ذلك قوم مطلقا، ونقله الآمدي عن أكثر العلماء.
وقال القاضي أيضا في " الكفاية ": إن صرحوا بالتسوية لم يجز، وإلا فوجهان: كإيجاب بعض الأمة النية للوضوء، ولا يعتبر الصوم للاعتكاف، ويعكس آخر.
قال ابن مفلح: كذا قال، وبعد بعض أصحابنا هذا التمثيل.
وقال أبو الخطاب في " التمهيد " وغيره: إن صرحوا بالتسوية لم يجز لاشتراكهما في المقتضى للحكم ظاهرا، وإن لم يصرحوا فإن اختلف طريق الحكم فيها كالنية في الوضوء والصوم في الاعتكاف جاز، وإلا يلزم من وافق إماما في مسألة موافقته في جميع مذهبه، وإجماع الأمة خلافه.
وإن اتفق الطريق كزوج، وأبوين، وامرأة وأبوين، وكإيجاب نية في وضوء وتيمم، وعكسه لم يجز، وهو ظاهر كلام أحمد.
وهذا التفصيل قاله القاضي عبد الوهاب المالكي، وذكر ابن برهان لأصحابه في الجواز وعدمه وجهين. وقال الحلواني، والشيخ موفق الدين: إن صرحوا بالتسوية لم يجز، وإلا جاز لموافقته كل طائفة. قال أبو الطيب الشافعي: هو قول أكثرهم.
وقال الهندي: إذا تعدد محل الحكم - لكن أجمعوا على أن لا فصل بينهما، بل متى حكم بحكم على أحد المحلين كان الآخر مثله، امتنع إحداث قول بالتفصيل بلا خلاف.
لكن رد عليه: بأن الخلاف مشهور، حكاه الباقلاني في " التقريب ". [و] حكاه في " اللمع " احتمالا لأبي الطيب.
قال البرماوي: وإن لم ينصوا على ذلك، ولكن علم اتحاد الجامع بينهما فهو جار مجرى النص على عدم الفرق، كالعمة والخالة من ورث إحداهما ورث الأخرى، ومن منع منع؛ لأن المأخذ واحد وهو القرابة الرحمية. انتهى.
قال ابن العراقي الشافعي: إذا لم يفصل أهل العصر بين مسألتين، بل أجابوا فيهما بجواب واحد، فليس لمن بعدهم التفصيل بينهما، وجعل حكمهما مختلفا إن لزم منه خرق الإجماع، وذلك في صورتين:
الأولى: أن يصرحوا بعدم الفرق بينهما.
الثانية: أن يتحد الجامع بينهما، كتوريث العمة والخالة، فإن العلماء بين مورث لهما ومانع، والجامع بينهما عند الطائفتين كونهما من ذوي الأرحام، فلا يجوز منع واحدة وتوريث أخرى، فإن التفصيل بينهما خارق لإجماعهم في الأولى نصا، وفي الثانية تضمنا، ويجوز التفصيل فيما عدا هاتين الصورتين.
وقيل: بمنع التفصيل بينهما مطلقا، وإن ذلك خارق للإجماع، وكلام الباقلاني، والرازي يدل عليه. اهـ.
وقال الشيخ/ الأمين الشنقيطي: إحداث التفصيل جعله قوم داخلا في إحداث القول الثالث، وقال قوم: ليس داخلا فيه. وهو ممنوع أيضا إن كان التفصيل خارقا للإجماع، ومثاله: اختلاف العلماء في توريث العمة والخالة، فمن قائل: لا ترثان. ومن قائل: ترثان. فلو أحدث التفصيل بإرث العمة دون الخالة أو العكس كان باطلا؛ لأنه خارق لإجماعهم على أنهما سواء، لأنهم لو قالوا في المسألتين: أنهما سواء. امتنع التفصيل بينهما قولا واحدا، واعلم أن الأصوليين اختلفوا في انقسام الأمة إلى قسمين في مسألتين، وكلاهما مخطئ في إحداهما.
وحاصل تحرير هذا المقام: أن له ثلاث حالات؛ اثنتان يتفق عليها، وواحدة هي المختلف فيها، فالمتفق عليها:
1- اتفاقهم على الخطأ في المسألة الواحدة من الوجه الواحد فهذا لا يجوز إجماعا.
2- اتفاقهم على الخطأ في مسألتين متباينتين، كخطأ بعضهم في مسألة من الجنايات، وخطأ البعض الآخر في مسألة من العبادات، فهذا يجوز إجماعا.
ومحل الخلاف 3- المسألة الواحدة ذات الوجهين نحو المانع من الميراث؛ فإنه جنس واحد إلا أنه ينقسم إلى نوعين، مثلا: قتل ورق؛ فهم يجوز أن يقول بعضهم: القاتل يرث والعبد لا يرث. ويقول البعض الآخر بعكس ذلك، فيخطئ كل منهما فيما أصاب فيه الآخر.
فقيل: هذا لا يمتنع؛ لأن الأمة لم تجتمع على خطأ في شيء معين واحد. وقيل: يمتنع نظرا إلى خطأ المجموع في الجملة (وهذه المسألة هي محل الخلاف). اهـ. من المذكرة في أصول الفقه.
أما قولك: ( كذلك هل يمكن استنباط قاعدة شرعية في الفقه لم يذكرها من قبل أحد من العلماء) فيقال في هذه المسألة: إن عدم الذكر أو النص على القاعدة لا يقتضي عدم العمل بها، فعامة القواعد الفقهية لم ينص عليها الصحابة بألفاظها، وإنما عملوا بها.
فالقاعدة المستنبطة: إن كان العلماء السابقون لم يذكروها بمعنى أنهم أجمعوا على ذكر قاعدة تخالفها، أو اتفقوا على العمل بما يخالف مقتضاها، فإحداث القاعدة حينئذ ممنوع؛ لأنه خرق للإجماع.
وأما إن لم يكن الأمر كذلك: فلا يعتبر استنباط القاعدة خرقا للإجماع، فلا مانع منه من هذه الحيثية، ويبقى النظر في صحة القاعدة وفقا للأدلة الشرعية.
وأما بخصوص القاعدة التي ذكرتها ومثلت لها: فلا نعلم لها أصلا، ولم نقف على ذكر لها عند العلماء.
والله أعلم.