السؤال
أمر يحيرني وأريد أن أعرف حكم الشرع فيه، هل الأفضل الحصول على الحق كاملا وعدم التنازل عن أي جزء منه معاقبة لمن أكل بعض الحقوق عن قصد أو بغير قصد مهما أدى ذلك إلى قطع الرحم؟ أم الأفضل التنازل ولو عن بعض الحق حرصا على صلة الرحم وبقاء الود؟ لا أقصد هنا التنازل عن الإرث كاملا وتشجيع المخطئ على خطئه ولكن التنازل أو التغاضي عن بعض الحق، بمعنى ما هو الحد الفاصل بين الحفاظ على الحقوق وردع من يأكلها وبين الحفاظ على الود وصلة الرحم.
وسأضرب مثالا يوضح سؤالي، خال زوجي يقيم في منزل العائلة، وهو منزل صغير جدا وجميع إخوته تزوجوا خارج المنزل، فقام بهدم المنزل وبنائه من جديد له ولأولاده، وقام بإعطاء إخوته نصيبهم من المنزل مالا دون أن يستشيرهم في الهدم أو البناء أو قبول المال، فأخذ أخواله وخالاته المال على مضض، ورفض زوجي أخذ نصيبه من إرث أمه رغم أنه مبلغ ضئيل جدا لا يعني شيئا، وبحمد الله لا نحتاج إليه، ولن نستطيع الاستفادة من نصيبه في البيت بأي حال من الأحوال إلا بأخذ قيمته مالا، ولكنه رفض بدعوى أنه يشجع خاله على الخطأ وأنه هكذا أخذه غصبا، وأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ومن وقتها لا يتكلم معه في الهاتف ولا يزوره خوفا من إثارة الموضوع، في المقابل قلت له: ما استفدت من ذلك غير قطع الرحم وفتح طريق الشيطان للدخول في النفوس، وكان من الممكن أن يقول لخاله: أنا قبلت المال حرصا على الود ولكن ما فعلته كان خطأ.
فأرجو توضيح رأي العلماء في ذلك.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن العفو عن الحقوق قد جاءت نصوص كثيرة في الحض عليه، وبيان فضله، وقد ذهب بعض العلماء إلى استحباب عفو الشخص عن حقوقه مطلقا، قال ابن تيمية: {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} فذكر: أنه يحب المحسنين والعافين عن الناس. وتبين بهذا أن هذا من الإحسان، والإحسان ضد الإساءة فالكاظم للغيظ والعافي عن الناس قد أحسن إلى نفسه وإلى الناس، فإذا كان المظلوم يستحق عقوبة الظلم ونفسه تدعوه إليه فكف نفسه عن ذلك ودفع عنه ـ أي: عن الظالم ـ ما يدعوه إليه من إضراره فهذا إحسان منه إليه وصدقة عليه، والله تعالى يجزي المتصدقين، ولا يضيع أجر المحسنين . فكيف يسقط أجر العافي؟ وهذا عام في سائر ما للعبد من الحقوق على الناس؛ ولهذا إذا ذكر الله في كتابه حقوق العباد وذكر فيها العدل ندب فيها إلى الإحسان، فإنه سبحانه يأمر بالعدل والإحسان. كما قال تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}، فجعل الصدقة على المدين المعسر بإسقاط الدين عنه خيرا للمتصدق من مجرد إنظاره، وقال تعالى: {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} فسمى إسقاط الدية صدقة، وقال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى} فجعل العفو عن نصف الصداق الواجب على الزوج بالطلاق قبل الدخول أقرب للتقوى من استيفائه، وقال تعالى حكاية عن لقمان أنه قال لابنه: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} وقال تعالى: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} . فهناك في قول لقمان ذكر الصبر على المصيبة فقال: {إن ذلك من عزم الأمور} وهنا ذكر الصبر والعفو فقال: {إن ذلك لمن عزم الأمور} وذكر ذلك بعد قوله: {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} فذكر سبحانه الأصناف الثلاثة في باب الظلم الذي يكون بغير اختيار المظلوم؛ وهم: العادل والظالم والمحسن. فالعادل من انتصر بعد ظلمه وهذا جزاؤه أنه ما عليه من سبيل فلم يكن بذلك ممدوحا ولكن لم يكن بذلك مذموما، وذكر الظالم بقوله: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} فهؤلاء عليهم السبيل للعقوبة والاقتصاص، وذكر المحسنين فقال: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، وكما أن من توهم أنه بالعفو يسقط حقه أو ينقص: غالط جاهل ضال؛ بل بالعفو يكون أجره أعظم؛ فكذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل ويحصل للظالم عز واستطالة عليه فهو غالط في ذلك. كما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ثلاث إن كنت لحالفا عليهن: ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما نقصت صدقة من مال، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله}، فبين الصادق المصدوق: أن الله لا يزيد العبد بالعفو إلا عزا، وأنه لا تنقص صدقة من مال، وأنه ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، وهذا رد لما يظنه من يتبع الظن وما تهوى الأنفس من أن العفو يذله والصدقة تنقص ماله والتواضع يخفضه، وفي الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: {ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه؛ إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله}، وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أكمل الأخلاق، وقد كان من خلقه أنه لا ينتقم لنفسه، وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، فيعفو عن حقه ويستوفي حق ربه .اهـ. باختصار .
وإذا كان العفو عن الحقوق مستحب مطلقا فهو للقريب أشد استحبابا، لما في ذلك الصلة، ومصلحة ردع الظالم وزجره قد تحصل بإظهار القدرة على الانتصار منه، والسعي في التمكن منه، ثم العفو عنه بعد القدرة عليه، وهذا هو الظاهر من طريقة السلف، كما بيناه في الفتوى رقم: 255238 .
ويرى بعض العلماء عدم تفضيل العفو عن الحقوق في بعض الأحوال، جاء في كتاب بريقة محمودية: (وإن قدر) على أخذه (فله العفو أيضا) كما إذا لم يقدر (وهذا أفضل من العفو الأول) أي العفو مع العجز وعدم القدرة لعجز ذلك عن الأخذ حالا وأنه أشق على النفس (و) من (الانتصار أي استيفاء حقه من غير زيادة عليه وهو) أي الانتصار (العدل المفضول لكن قد يكون) العدل (أفضل من العفو بعارض) موجب لذلك (مثل كون العفو سببا لتكثير ظلمه) لتوهمه أن عدم الانتقام منه للعجز (و) كون (الانتصار) سببا (لتقليله أو هدمه) إذا كان الحق قصاصا مثلا (أو نحو ذلك) من العوارض مثل كونه عبرة للغير. (وإن زاد) على حقه (فجور وظلم). اهـ. باختصار .
وقال ابن عثيمين: {والعافين عن الناس} يعني: الذين إذا أساء الناس إليهم عفوا عنهم، فإن من عفا وأصلح فأجره على الله، وقد أطلق الله العفو هنا ولكنه بين قوله تعالى {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} أن العفو لا يكون خيرا إلا إذا كان فيه إصلاح، فإذا أساء إليك شخص معروف بالإساءة والتمرد والطغيان على عباد الله فالأفضل ألا تعفو عنه وأن تأخذ بحقك؛ لأنك إذا عفوت ازداد شره أما إذا كان الإنسان الذي أخطأ عليك قليل الخطأ قليل العدوان لكن أمر حصل على سبيل الندرة فهنا الأفضل أن تعفو. اهـ.
لكن على كل حال: فظلم القريب وتعديه لا يحل قطيعته، ولا يسقط حقه في الصلة، قال صلى الله عليه وسلم: ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها. أخرجه البخاري . وصلة القريب الظالم موجبة لمعونة الله للواصل، فعن أبي هريرة، أن رجلا قال: يا رسول الله؛ إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك. أخرجه مسلم.
فالواجب على زوجك صلة خاله، والكف عن قطيعته، وهو بالخيار بعد ذلك في أخذه حقه منه، أو العفو عنه، والأخذ بالحق ليس من قطيعة الرحم. وانظري للفائدة الفتوى رقم :133912 .
والله أعلم.