الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن المسلم إذا بغي عليه، يشرع له السعي في التمكن من الانتصار، وأن يظهر للباغي قدرته على الانتقام، ثم يعفو بعد القدرة، وهذا هو الظاهر من طريقة السلف.
قال ابن رجب: ووصفهم في معاملتهم للخلق بالمغفرة عند الغضب، وندبهم إلى العفو والإصلاح.
وأما قوله: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} فليس منافيًا للعفو، فإن الانتصار يكون بإظهار القدرة على الانتقام، ثم يقع العفو بعد ذلك، فيكون أتم وأكمل، قال النخعي في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا. وقال مجاهد: كانوا يكرهون للمؤمن أن يذل نفسه، فيجترئ عليه الفساق، فالمؤمن إذا بغي عليه، يظهر القدرة على الانتقام، ثم يعفو بعد ذلك، وقد جرى مثل هذا لكثير من السلف، منهم: قتادة، وغيره. اهـ.
وجاء في فيض الباري: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا. أي كانوا يَسْعَون أن يَقْدروا على الانتقام، فاذا قَدِروا عليه عَفَوْا، وتَرْكُ سعي التمكَّنِ على الانتصار هو الذي عَنَوْه بالذِّلَّة، والعَفُو بعد القدرةِ هو عمل أصحابِ العزائم. اهـ.
وفي الفروع : وقال شيخنا - ابن تيمية - في الآية المذكورة {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} فائدة عظيمة، وهو أن حمدهم على أنهم ينتصرون عند البغي عليهم، كما أنهم هم يعفون عند الغضب، ليسوا مثل الذي ليس له قوة الانتصار، وفعله لعجزهم، أو كسلهم، أو وهنهم، أو ذلهم، أو حزنهم، فإن أكثر من يترك الانتصار بالحق، إنما يتركه لهذه الأمور وأشباهها، وليسوا مثل الذي إذا غضب لا يغفر، ولا يعفو، بل يتعدى، أو ينتقم حتى يكف من خارج، كما عليه أكثر الناس إذا غضبوا، أو قدروا لا يقفون عند العدل، فضلًا عن الإحسان. فحمدهم على أنهم هم ينتصرون وهم يعفون. اهـ.
فينبغي إذا تعرضت للشتم، ونحوه، أن تسعى في الانتصار من الشاتم، وتظهر القدرة على الانتقام، فإذا تمكنت من الانتصار عفوت، وأما العفو مع العجز فليس بمحمود بإطلاق.
قال ابن القيم: وكل خلق محمود، مكتنف بخلقين ذميمين، وهو وسط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خلقا البخل، والتبذير، فإن النفس متى انحرفت عن التوسط، انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد، وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت: إما إلى الطيش، والترف، والحدة، والخفة، وإما إلى الذل، والمهانة، والحقارة، ففرق بين من حلمه حلم ذل، ومهانة، وحقارة، وعجز، وبين من حلمه حلم اقتدار، وعزة، وشرف، كما قيل:
كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجئ إليها اللئام. اهـ. باختصار من مدارج السالكين.
وأما سب الدين، ونحوه، فيشرع الاستيفاء فيه -برفعه إلى القضاء الشرعي، ونحو ذلك -وعدم العفو مطلقًا؛ لأنه متعلق بحق الله سبحانه.
قال ابن تيمية: وأما قول السائل: هل يقتص منه؛ لئلا يؤدي إلى طمع منه في جانب الحق؟ فيقال: متى كان فيما فعله إفساد لجانب الحق، كان الحق في ذلك لله، ورسوله، فيفعل فيه ما يفعل في نظيره، وإن لم يكن فيه أذى للآمر الناهي، والمصلحة في ذلك تتنوع؛ فتارة تكون المصلحة الشرعية القتال، وتارة تكون المصلحة المهادنة، وتارة تكون المصلحة الإمساك، والاستعداد بلا مهادنة، وهذا يشبه ذلك؛ لكن الإنسان تزين له نفسه أن عفوه عن ظالمه يجريه عليه، وليس كذلك؛ بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: {ثلاث إن كنت لحالفًا عليهن: ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا، وما نقصت صدقة من مال، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله}.
فالذي ينبغي في هذا الباب أن يعفو الإنسان عن حقه، ويستوفي حقوق الله بحسب الإمكان، قال تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}.
قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا. قال تعالى: {هم ينتصرون} يمدحهم بأن فيهم همة الانتصار للحق، والحمية له؛ ليسوا بمنزلة الذين يعفون عجزًا وذلًا؛ بل هذا مما يذم به الرجل، والممدوح العفو مع القدرة، والقيام لما يجب من نصر الحق، لا مع إهمال حق الله، وحق العباد. اهـ. من مجموع الفتاوى.
وانظر للفائدة الفتوى رقم: 112756.
والله أعلم.