السؤال
جميعنا نعلم الآيات التي وردت في سورة آل عمران عن الجهاد، والقتل في سبيل الله، وأن المنافقين هم من يظنون أن السفر والجهاد سبب لوفاة من مات فيهما، وأنهم لو ظلوا في بيوتهم لما قتلوا، وما أعرفه أن من ذهب للجهاد ومن لم يذهب سيموت في نفس اليوم، أينما كان، حينما يأتي أجله، ولكنني قرأت ما يناقض مفهومي في كتاب الفقه الميسر: "9ـ العالم الذي لا يوجد غيره في البلد؛ لأنه لو قتل لافتقر الناس إليه؛ إذ لا يمكن لأحد أن يحل محله، فإذا كان لا يوجد من هو أفقه منه، يسقط عنه الخروج للجهاد؛ نظرا لحاجة المسلمين له"، فكيف يخافون أن يموت العالم بسبب خروجه للجهاد، أليس سيموت في نفس اليوم؟ أم إن الجهاد يعجل في الموت؟ أخاف أن يأتي يوم ويوسوس لي الشيطان، ويجعلني أمنع زوجي، أو أهبط من عزيمته عن الجهاد؛ خوفا من فقده؛ لذا أريد الأدلة، وما قيل في هذه المسائل لأراجعها كلما ضعفت، وأرجو أن لا تحدثوني عن الشهيد وشفاعته لأهله؛ لأن هناك آراء كثيرة أن زوجته قد لا تكون ضمن أهله -جزاكم الله خيرا-.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فأجل الإنسان مقدر عليه قبل أن يخلق، وكذلك طريقة مجيئه، سواء أمات الإنسان حتف أنفه، أم قتل في الجهاد، أم بغير ذلك من الأسباب، فكل نفس تستوفي أجلها، كما تستوفي رزقها، فالشهيد لا يقتل إلا عند حضور أجله، ومن تخلف سيموت إن حضر أجله أيضا، ويدل على هذا ما أشارت إليه السائلة من قوله تعالى: يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم {آل عمران: 154}، وكذلك قوله تعالى: أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة {النساء: 78}.
ولا يتعارض هذا مع كون القتال، والتعرض للشهادة يمكن أن يكونا سببا في حصول الموت؛ إذ المعنى أن من حضر أجله مات، قاتل أو لم يقاتل، ومن لم يحضر أجله لم يمت، قاتل أو لم يقاتل، فالعبرة بتحقق المكتوب الذي هو غيب لا يعلمه إلا الله؛ ولذلك خصت الآية من كتب عليهم القتل بالبروز في قوله تعالى: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ـ قال ابن الجوزي في زاد المسير: أي: لو تخلفتم، لخرج منكم من كتب عليه القتل، ولم ينجه القعود، والمضاجع: المصارع بالقتل. اهـ.
وقال السعدي: قل لو كنتم في بيوتكم ـ التي هي أبعد شيء عن مظان القتل: لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ـ فالأسباب ـ وإن عظمت ـ إنما تنفع إذا لم يعارضها القدر والقضاء، فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا، بل لا بد أن يمضي الله ما كتب في اللوح المحفوظ من الموت، والحياة. اهـ.
والأسباب نفسها من جملة القدر، كما هو معروف، وإلى ذلك يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له فيها حاجة. رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني.
ولذلك ننبه السائلة على أننا وإن كان نقطع بأن المقتول ميت بأجله، أي: الوقت المقدر لموته، وأنه قد استوفى عمره كاملا، إلا أننا عرفنا ذلك لما قتل بالفعل، وهذا لا يمنع من جهلنا بعمره إذا لم يخرج للقتال الذي كان سببا في موته، مثله مثل سائر أسباب الموت إذا قدرنا تخلفها، وعدم حصولها؛ ولذلك كان مذهب أهل السنة أن المقتول لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت، وجاز أن لا يموت، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 265666.
ويبقى للمجاهد فضيلة تعريض نفسه للقتل، وإن سلم وغنم، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من خير معاش الناس لهم: رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة، أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه... الحديث. رواه مسلم.
قال النووي: معنى: يبتغي القتل مظانه ـ يطلبه في مواطنه التي يرجى فيها؛ لشدة رغبته في الشهادة، وفي الحديث: فضيلة الجهاد، والحرص على الشهادة. اهـ.
وعن سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: تسلم، وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر، وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد، فهو جهد النفس، والمال، فتقاتل، فتقتل، فتنكح المرأة، ويقسم المال، فعصاه فجاهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة. رواه أحمد، والنسائي، وصححه الألباني.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته. رواه أبو داود، وصححه الألباني. وفي رواية لأحمد، والترمذي، وابن ماجه: سبعين من أقاربه.
فلم نقف على أحد من أهل العلم نص على عدم دخول الزوجات في هؤلاء السبعين، بل نص العظيم آبادي، والمناوي على أنهم من أصوله، وفروعه، وزوجاتهم، وغيرهم من الأقارب، وقال الشيخ عبد المحسن العباد في شرح أبي داود: أي: من قراباته، أصوله وفروعه، أو حواشيه، أو زوجاته؛ لأن كل هؤلاء أهل بيته. اهـ.
وأما ما نقلته السائلة عن كتاب الفقه الميسر: فهو مأخوذ من كتب الحنفية، فهم الذين نصوا على عدم وجوب الجهاد على العالم الذي ليس في البلدة أفقه منه؛ لما يدخل عليهم بخروجه، أو سفره من الضياع، نص عليه شيخي زاده في مجمع الأنهر، والحصكفي في الدر المختار، ومنلا خسرو في درر الحكام، ويدل عليه قوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون {التوبة: 122}.
والله أعلم.