السؤال
لماذا خلق الله الإنسان والكون؟ وما الحكمة من ذلك؟ وإذا كان الجواب هو {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، أو من أجل خلافة الأرض وإعمارها، فلماذا يخلق الله مخلوقات، مثل الإنسان، ويعرضها لشتى أنواع الابتلاءات والامتحانات، وقد ينتهي بها المطاف خالدة في العذاب من أجل عبادته وتقديسه، ونحن نعلم أنه غير محتاج إلى ذلك؟ وحتى لو كان محتاجا -حاشاه- فليس عدلا أن نعاني من أجل سد هذه الحاجة!
ولماذا يخلق الله أرضا من الأساس كي تكون هناك حاجة لعمارتها؟ ولماذا علي أن أعاني في هذه الحياة من أجل إعمار الأرض التي أنشأها الله، والتي لو لم يخلقني عليها لما كان لي شأن بها أصلا؟ أليس كل ذلك منافيا للعدل والرحمة؟
أنا لم أختر أن أكون هنا، فهل من العدل أن يوجدني الله في كل هذه الابتلاءات رغما عني ودون اختيار مني؟ وكيف يطلب مني أن أحبه إذا كان يهددني بالحريق إن لم أصل وأذهب إلى المسجد؟ فهل هناك حب بالإكراه؟!
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالله تعالى موصوف بالصفات العلا، وهو سبحانه له الأسماء الحسنى، فهو سبحانه موصوف بكل كمال منزه عن كل نقص، وقد اقتضت حكمته -جل وعز- أن يوجد هذا الكون بما عليه، فخلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وخلق البشر لعمارة الأرض، وامتحنهم بالتكاليف؛ فتميزوا إلى شقي وسعيد، كل ذلك لتظهر آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلا، فالله تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، لم يخلقهما عبثا ولا لعبا تعالى وتقدس عن ذلك، وهو الغني عن جميع خلقه وجميع خلقه فقراء إليه، وإلى بعض الحكم والغايات التي لأجلها أوجد الله هذا الخلق أشار ابن القيم بقوله: وقوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} والحق هو الحكم والغايات المحمودة التي لأجلها خلق ذلك كله، وهو أنواع كثيرة؛ منها: أن يعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته، ومنها: أن يحب ويعبد ويشكر ويذكر ويطاع، ومنها: أن يأمر وينهى ويشرع الشرائع، ومنها: أن يدبر الأمر ويبرم القضاء ويتصرف في المملكة بأنواع التصرفات، ومنها: أن يثيب ويعاقب فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فيوجد أثر عدله وفضله موجودا مشهودا فيحمد على ذلك ويشكر، ومنها: أن يعلم خلقه أنه لا إله غيره ولا رب سواه، ومنها: أن يصدق الصادق فيكرمه ويكذب الكاذب فيهينه، ومنها: ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوعها وكثرتها في الوجود الذهني والخارجي؛ فيعلم عباده ذلك علما مطابقا لما في الواقع، ومنها: شهادة مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها وفاطرها ومليكها، وأنه وحده إلهها ومعبودها، ومنها: ظهور أثر كماله المقدس؛ فإن الخلق والصنع لازم كماله فإنه حي قدير، ومن كان ذلك كذلك لم يكن إلا فاعلا مختارا، ومنها: أن يظهر أثر حكمته في المخلوقات بوضع كل منها في موضعه الذي يليق به ومحبته على الوجه الذي تشهد العقول والفطر بحسنه فتشهد حكمته الباهرة، ومنها: أنه سبحانه يحب أن يجود وينعم ويعفو ويغفر ويسامح، ولا بد من لوازم ذلك خلقا وشرعا، ومنها: أنه يحب أن يثنى عليه ويمدح ويمجد ويسبح ويعظم، ومنها: كثرة شواهد ربوبيته ووحدانيته وإلهيته، إلى غير ذلك من الحكم التي تضمنها الخلق فخلق مخلوقاته بسبب الحق ولأجل الحق، وخلقها ملتبس بالحق، وهو في نفسه حق؛ فمصدره حق، وغايته حق، وهو يتضمن للحق، وقد أثنى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء ولا لغاية فقال تعالى: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك}، وأخبر أن هذا ظن أعدائه لا ظن أوليائه فقال: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا}، وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول إنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له ولا أمر لحكمة ولا نهى لحكمة.
وقال أيضا -رحمه الله-: ويستحيل أن يتخلف موجب صفات كماله عنها! وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياء وإهانة الأعداء؟ وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إلا بخلق المتضادات والمختلفات وترتيب آثارها عليها وإيصال ما يليق بكل منها إليه؟ وهل ظهور آثار أسمائه وصفاته في العالم إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فهل يكون رزاقا وغفارا وعفوا ورحيما وحليما ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له ويعفو عنه ويحلم عنه ويرحمه؟ وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم، ويرى أولياءه كمال نعمته عليهم واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه؟ إلى آخر كلامه -رحمه الله-.
وبه يتبين لك خطأ هذه الإيرادات وبطلانها، وأنها من تلبيس الشيطان وكيده ومكره، ألقاها في قلبك ليلبس عليك ويحول بينك وبين الخير، فإياك أن تكون باسترسالك مع تلك الأفكار الإبليسية من جند الشيطان وأعوانه؛ فتستأسر له وتعطيه قيادك.
وأما ما ذكرته من طلبه منك أن تحبه وهل يوجد حب بالإكراه؟ فلعمر الله إن هذا لمن أقبح الجهل، فإن من عرف الله وكماله المطلق وجد نفسه مضطرا إلى محبته ولا بد، ومن تفكر في إنعام الله عليه وإمداده له بصنوف النعم الظاهرة والباطنة وإحسانه إليه في مختلف أطواره وجد نفسه مضطرا إلى محبته ولا بد، والمحبة تنشأ من الإحسان ومطالعة الآلاء والنعم؛ فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحسانا من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده في كل نفس ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان، فضلا عن أنواعه أو أفراده؛ فاتق الله تعالى، وتب إليه، وأقلع عن تلك الأفكار الشيطانية، وأقبل على ربك عابدا له؛ فإنه لا سعادة لك ولا فلاح إلا في التقرب إليه سبحانه.
والله أعلم.