السؤال
هل كيفية الأداء في القراءات العشر المتواترة من عند الرسول ﷺ (كالإمالة، والتقليل، والإشمام، وغيرها) أم أنه مرخص بقراءة القرآن على لغة العرب؟ لأن هناك أناسا يزعمون أن كيفية الأداء إنما هي رخصة ولم يقرأ بها النبي ﷺ.
هل كيفية الأداء في القراءات العشر المتواترة من عند الرسول ﷺ (كالإمالة، والتقليل، والإشمام، وغيرها) أم أنه مرخص بقراءة القرآن على لغة العرب؟ لأن هناك أناسا يزعمون أن كيفية الأداء إنما هي رخصة ولم يقرأ بها النبي ﷺ.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن القرآن ثابت بالنقل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في جميع قراءات القرآن المتواترة التي اشتهرت بين المسلمين وعملوا بها، ولا سيما ما ثبت في السبع، ومنه الإمالة، والتقليل، والإشمام، فهذا من وجوه الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن؛ قال الشيخ/ عبد الفتاح القاضي في شرح الشاطبية:
وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة اختلافا كثيرا، وذهبوا فيه مذاهب شتى، والذى نرجحه من بين هذه المذاهب: مذهب الإمام أبي الفضل الرازي، وهو: أن المراد بهذه الأحرف الأوجه التي يقع بها التغاير والاختلاف، والأوجه التي يقع بها هذا التغاير والاختلاف لا تخرج عن سبعة:
الأول: اختلاف الأسماء في الإفراد والتثنية والجمع؛ نحو قوله تعالى في ســـــورة البقرة: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، قرئ لفظ مسكين هكذا بالإفراد، وقرئ مساكين بالجمع. وقوله تعالى في الحجرات: فأصلحوا بين أخويكم، قرئ بفتح الهمزة والخاء والواو وبعدها ياء ساكنة على أنه مثنى أخ، وقرئ إخوتكم بكسر الهمزة وسكون الخاء وفتح الواو وبعدها تاء مكسورة على أنه جمع أخ. وقوله تعالى في سبأ: وهم في الغرفات آمنون، قرئ بإثبات الألف بعد الفاء مع ضم الراء على الجمع، وقرئ بحذف الألف وسكون الراء على الإفراد.
الثاني: اختلاف تصريف الأفعال، من ماض ومضارع وأمر؛ نحو قوله تعالى في البقرة: ومن تطوع خيرا، قرئ بفتح التاء والطاء مخففة مع فتح العين على أنه فعل ماض، وقرئ (يطوع) بياء مفتوحة وبعدها طاء مشددة مفتوحة مع جزم العين على أنه فعل مضارع. وقوله تعالى بيوسف: فنجي من نشاء، قرئ بجيم مشددة بعد النون المضمومة وبعدها ياء مفتوحة على أنه فعل ماض، وقرئ بزيادة نون ساكنة بعد النون المضمومة مع تخفيف الجيم وسكون الياء على أنه فعل مضارع ... وقوله تعالى في البقرة: فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير، قرئ أعلم بهمزة قطع مفتوحة مع رفع الميم على أنه فعل مضارع، وقرئ اعلم بهمزة وصل تثبت مكسورة في الابتداء وتسقط في الدرج مع سكون الميم على أنه فعل أمر.
الثالث: اختلاف وجوه الإعراب؛ نحو قوله تعالى في البقرة: ولا تسأل عن أصحاب الجحيم، قرئ بضم التاء ورفع اللام على أن لا نافية ، وقرئ بفتح التاء وجزم اللام على أن لا ناهية . وقوله تعالى في إبراهيم: الله الذي له ما في السموات قرئ بخفض الهاء من لفظ الجلالة وقرئ برفعها. وقوله تعالى في النور: يسبح له فيها بالغدو والآصال، قرئ يسبح بكسر الباء وفتحها على البناء للمعلوم والمجهول.
الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة؛ كقوله تعالى بآل عمران: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم، قرئ بإثبات الواو قبل السين، وقرئ بحذفها. وقوله تعالى في يوسف: قال يا بشراي هذا غلام، قرئ بزيادة الياء المفتوحة بعد الألف وقرئ بحذفها. وقوله تعالى في الشورى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، قرئ فبما بفاء قبل الباء، وقرئ بما بحذف الفاء.
الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير؛ كقوله تعالى في آل عمران: وقاتلوا وقتلوا، قرئ بتقديم وقاتلوا وتأخير وقتلوا، وقرئ بتقديم وقتلوا وتأخير وقاتلوا. وقوله تعالى في الإسراء وفصلت: ونآى بجانبه، قرئ بتقديم الهمزة على الألف، وقرئ بتقديم الألف على الهمزة. وقوله تعالى في المطففين: ختامه مسك، قرئ بكسر الخاء وتقديم التاء المفتوحة على الألف، وقرئ بفتح الخاء وتقديم الألف على التاء المفتوحة.
السادس: الاختلاف بالإبدال؛ أي: جعل حرف مكان آخر، كقوله تعالى في سورة يونس: هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت، قرئ تبلوا بتاء مفتوحة فباء ساكنة، وقرئ بتاءين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة. وقوله تعالى في الشعراء: وتوكل على العزيز الرحيم، قرئ وتوكل بالواو، وقرئ فتوكل بالفاء. وقوله تعالى في سـورة التكوير: وما هو على الغيب بضنين، قرئ بالضاد وبالظاء.
السابع: الاختلاف في اللهجات؛ كالفتح والإمالة، والإظهار والإدغام، والتسهيل والتحقيق، والتفخيم والترقيق، وهكذا، ويدخل في هذا النوع الكلمات التي اختلفت فيها لغة القبائل وتباينت ألسنتهم في النطق بها، نحو: خطوات، بيوت، خفية، زبورا، شنآن، السحت، الأذن، بالعدوة، بزعمهم، يعزب، يقنط. اهـ.
وقد ذهب الجمهور لتواتر ما روي من الإمالة والإشمام، وخالف ابن الحاجب في التواتر، لكنه لم يخالف في ثبوت النقل أصلا؛ قال الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع:
( و ) القراءات السبع المعروفة للقراء السبعة أبي عمرو ونافع وابن كثير وعامر وعاصم وحمزة والكسائي ( متواترة ) من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلينا؛ أي: نقلها عنه جمع يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب لمثلهم وهلم ( قيل ) يعني قال ابن الحاجب ( فيما ليس من قبيل الأداء ) أي: فما هو من قبيله بأن كان هيئة للفظ يتحقق بدونها فليس بمتواتر وذلك ( كالمد ) الذي زيد فيه متصلا ومنفصلا على أصله حتى بلغ قدر ألفين في نحو: جاء، وما أنزل، وواوين في نحو: السوء, وقالوا أنؤمن, وياءين في نحو: جيء وفي أنفسكم, أو أقل من ذلك بنصف أو أكثر منه بنصف أو واحد أو اثنين طرق للقراء ( والإمالة ) التي هي خلاف الأصل مع الفتح محضة أو بين بين بأن ينحي بالفتحة فيما يمال كالغار نحو الكسرة على وجه القرب منها أو من الفتحة ... اهـ.
وقال الفتوحي الحنبلي في شرح الكوكب المنير:
( و ) القراءات ( السبع متواترة ) عند الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة من علماء السنة ... واستدل من قال: إنها آحاد كالطوفي في شرحه. قال: والتحقيق أنها تواترت عنهم لا إليهم -بأن أسانيد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- موجودة في كتب القراءات. وهي نقل الواحد عن الواحد, لم تستكمل شروط التواتر. ورد بأن انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم. فقد كان يتلقى القراءة من كل بلد بقراءة إمامهم الذي من الصحابة أو من غيرهم: الجم الغفير عن مثلهم، وكذلك دائما, فالتواتر حاصل لهم, ولكن الأئمة الذين قصدوا ضبط الحروف وحفظوا شيوخهم فيها جاء السند من قبلهم. وهذا كالأخبار الواردة في حجة الوداع هي آحاد, ولم تزل حجة الوداع منقولة عمن يحصل بهم التواتر عن مثلهم في كل عصر. فينبغي أن يتفطن لذلك, ولا يغتر بقول من قال: إن أسانيد القراء تشهد بأنها آحاد. وإذا تقرر هذا؛ فاستثنى ابن الحاجب ومن تبعه من المتواتر ما كان من قبيل صفة الأداء, كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه. ومراده: مقادير المد وكيفية الإمالة لا أصل المد والإمالة. فإن ذلك متواتر قطعا. فالمقادير: كمد حمزة وورش. فإنه قدر ست ألفات. وقيل: خمس. وقيل: أربع. ورجحوه. ومد عاصم: قدر ثلاث ألفات, والكسائي: قدر ألفين ونصف، وقالون: قدر ألفين, والسوسي: قدر ألف ونصف، ونحو ذلك. وكذلك الإمالة تنقسم إلى محضة، وهي: أن ينحني بالألف إلى الياء, وبالفتحة إلى الكسرة, وإلى بين بين. وهي كذلك, إلا أنها تكون إلى الألف والفتحة أقرب, وهي المختارة عند الأئمة. أما أصل التخفيف في الهمزة والتشديد فمتواتر ... اهـ.
قال الزرقاني في مناهل العرفان:
قال الإمام أبو القاسم الهذلي في كتاب الكامل: إن الإمالة والتفخيم لغتان ليست إحداهما أقدم من الأخرى، بل نزل القرآن بهما جميعا ... وقد أجمعت الأمة من لدن رسول الله إلى يومنا هذا على الأخذ والقراءة والإقراء بالإمالة والتفخيم، وذكر أشياء، ثم قال: وما أحد من القراء إلا رويت عنه إمالة قلت أو كثرت. إلى أن قال: وهي يعني الإمالة لغة هوازن وبكر بن وائل وسعد بن بكر ... وقال القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني في كتاب الانتصار: جميع ما قرأ به قراء الأمصار مما اشتهر عنهم استفاض نقله ولم يدخله في حكم الشذوذ، بل رآه سائغا جائزا من همز وإدغام ومد وتشديد وحذف وإمالة أو ترك ذلك كله أو شيء منه أو تقديم أو تأخير، فإنه كله منزل من عند الله تعالى، ومما وقف الصحابة على صحته وخير بينه وبين غيره وصوب للجميع القراءة به، قال: ولو سوغنا لبعض القراء إمالة ما لم يمله الرسول والصحابة أو غير ذلك لسوغنا لهم الخروج على قراءة الرسول. ثم أطال -رحمه الله- الكلام على تقدير ذلك، وجوز أن يكون النبي أقرأ واحدا بعض القرآن بحرف وبعضه بحرف آخر على ما قد يراه أيسر على القراء. اهـ.
والله أعلم.