السؤال
السلام عليكم وجدت دراسة تندرج حول الحوار الإسلامي المسيحي تقول إنها موضوعية تدعي أن التثليث الذي حاربه الإسلام ليس هو تثليث العقيدة المسيحية، الدراسة توجد في هذا الموقع ...... فما هو رأيكم وكيف يمكن الإجابة عليها أفيدوني؟ جزاكم الله خيرا.
السلام عليكم وجدت دراسة تندرج حول الحوار الإسلامي المسيحي تقول إنها موضوعية تدعي أن التثليث الذي حاربه الإسلام ليس هو تثليث العقيدة المسيحية، الدراسة توجد في هذا الموقع ...... فما هو رأيكم وكيف يمكن الإجابة عليها أفيدوني؟ جزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فهذا الموقع بما يحوي يحاول أن يسوق عقائد النصارى كعقيدة التثليث المبتدعة من المجامع الوثنية بعد عيسى عليه السلام، ويحاول أن يخفي ما في هذه العقائد من تناقض وتخبط.
وما زعموه من أن التثليث الذي أنكره الإسلام غير التثليث الذي يعتقده النصارى محاولة من هذه المحاولات، وذلك لأن العقيدة التي يعتنقها النصارى -على اختلاف مذاهبهم- هي عقيدة أن الإله واحد في أقانيم ثلاثة: الأب، والابن، والروح القدس، والمسيح هو "الابن"، وهم يضطربون في تفسير الأقانيم: تارة يقولون أشخاص وتارة خواص وتارة صفات وتارة جواهر وتارة يجعلون الأقنوم اسما للذات والصفة معا، ومحصل كلامهم يؤول إلى التمسك بأن عيسى إله.
قال الدكتور بوست في قاموس الكتاب المقدس: طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية: الله الأب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطهير.
وجاء في كتاب "سوسنة سليمان" لنوفل بن نعمة الله بن جرجس النصراني إن عقيدة النصارى التي لا تختلف بالنسبة لها الكنائس وهي أصل الدستور الذي بينه المجمع النيقاوي هي الإيمان بإله، واحد: أب واحد، ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع، الابن الوحيد المولود من الأب قبل الدهور من نور الله، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، ومن أجل خطايانا نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس، ومن مريم العذراء تأنس، وصلب عنا على عهد بيلاطس، وتألم وقبر، وقام من الأموات في اليوم الثالث على ما في الكتب، وصعد إلى السماء وجلس على يمين الرب، وسيأتي بمجد ليدين الأحياء والأموات، ولا فناء لملكه، والإيمان بالروح القدس، الرب المحيي المنبثق من الأب، الذي هو الابن يسجد له، ويمجده، الناطق بالأنبياء.
ثم تختلف المذاهب بعد ذلك في المسيح، هل هو ذو طبيعة لاهوتية وطبيعة ناسوتية؟ أم هل هو ذو طبيعة واحدة لاهوتية فقط؟ وهل هو ذو مشيئة واحدة مع اختلاف الطبيعتين؟ وهل هو قديم كالأب أو مخلوق؟... إلى آخر ما تفرقت به مذاهبهم، وقامت عليه الاضطهادات بين فرقهم المختلفة.
وهذه المقولات بعينها من العقائد التي حاربها الإسلام، وهي تتضمن، القول بألوهية المسيح عليه السلام، والقول بأن الله ثالث ثلاثة، وإن حاولت الدراسة المذكورة إنكار ذلك، وقد حكم الله تعالى بأن هذه المقولات كلها كفر، وليس بعد قول الله سبحانه وتعالى قول، والآيات في تأكيد هذا المعنى كثيرة، قال الله تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [النساء:171].
وقال جل وعلا: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير [المائدة:17].
وقال عز وجل: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار* لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم* أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم* ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون [المائدة:72-73-74-75].
ونظرا لصعوبة تصور الأقانيم الثلاثة في واحد، وصعوبة الجمع بين التوحيد والتثليث، فإن الكتاب النصارى الذين كتبوا عن اللاهوت حاولوا تأجيل النظرالعقلي في هذه القضية، التي يرفضها العقل ابتداء، ومن ذلك ما كتبه القس بوطر في رسالة "الأصول والفروع" حيث يقول: قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا، ونرجو أن نفهمه فهما أكثر جلاء في المستقبل حين يكشف لنا الحجاب عن كل ما في السماوات وما في الأرض، وأما في الوقت الحاضر ففي القدر الذي فهمناه كفاية.
ولهذا فإننا نقول: إن عقيدة الثالوث التي قدمها النصارى للمجتمع الإنساني عجيبة وغريبة، وتبدو غرابتها واضحة وجلية عند عرضها على صفحة العقل الذي كرم الله به الإنسان، ولكن النصارى يرون أن التثليث لا يعالج بمنطق العقل، ولكن بالإيمان والوجدان، وهذا هروب من النصارى من بداية الطريق، فلا بأس أن نعتمد على الإيمان القلبي في قضية من القضايا الغيبية، ولكن بشرط ألا يحكم العقل فيها حكما بديهيا باستحالتها وتناقضها، وإذا كان النصارى يقولون إن التثليث يصعب تصوره على العقل فإننا نقول بل يستحيل تصوره لدى العقل، ومن أول جولة معه يخرجه بجذوره ويلقيه في دائرة اللامعقول، ومهما حاول النصارى أن يعللوا هذا التثليث فسيبقى مرا في حلوق العقلاء.
ودعوى أن الأقانيم الثلاثة هذه ثلاث صفات لذات واحدة دعوى تبرهن على تناقضهم لأنه يلزمهم على ذلك أن لا يكون المسيح إلها خالقا رازقا لأن الصفة ليست إلها خالقا رازقا، وأيضا فالصفة لا تفارق الموصوف وهم يقولون المسيح إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وهذا يدل على استحالة الجمع بين التثليث والتوحيد.
وسيظل العقل النصراني يئن تحت وطأة هذا التناقض، وكيف لا يئن ويشتكي أمام قول إثناسيوس الرسولي: فالأب هو الله والابن هو الله وروح القدس هو الله، وكلهم هو الله.
وأما اعتقادهم بأن كل أقنوم من الثلاثة يختص بعمل معين، كما يقول الدكتور بوست في قاموس الكتاب المقدس: فإلى الأب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء وإلى روح القدس التطهير؟ وأنه بعد صلبه صعد إلى السماء وجلس على يمين الرب. كما في الأمانة التي اتفق عليها النصارى.
فبهذا يظهر أمامهم ثلاثة آلهة تبرز برؤوسها، والثلاثة معا الله، والله يتفرق فيكون ثلاثة ويجتمع فيكون إلها، أين العقل الذي يحتمل ذلك؟
وأما ما ادعته هذه الدراسة من كون القرآن قد دل على ألوهية المسيح بقوله تعالى: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم [آل عمران:45]، وكما في قوله تعالى: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [النساء:171].
فالجواب عنه أن الآية الأولى تبين أنه مخلوق، ويتضح ذلك في وجوه منها: أنه قال (بكلمة منه) وقوله: (بكلمة منه) نكرة في الإثبات، يقتضي أنه كلمة من كلمات الله، ليس هو كلامه كله كما يقوله النصارى.
ومنها: أنه بين مراده بقوله (بكلمة منه) أنه مخلوق، حيث قال: كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [آل عمران:47].
وقال في الآية الأخرى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [آل عمران:59]، وقال تعالى أيضا: ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [مريم:34-35].
فهذه ثلاث آيات في القرآن تبين أنه قال له "كن" فكان، وهذا تفسير كونه (بكلمة منه)، وقال: اسمه المسيح عيسى ابن مريم فأخبر أنه ابن مريم وأخبر أنه "وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين " ، وهذه كلها صفة مخلوق والله تعالى وكلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك، وقال تعالى على لسان مريم: أنى يكون لي ولد فتبين أن الكلمة هي ولد مريم لا ولد الله سبحانه وتعالى.
فمع هذا البيان الواضح الجلي، هل يظن ظان أن مراده سبحانه بقوله (بكلمة منه) أنه إله خالق، أو أنه صفة لله قائمة به، وأن قوله (وروح منه) المراد به: أنه حياته أو روح منفصلة من ذاته؟ بل قوله تعالى (وروح منه) معناه أي روح مخلوقة من جملة الأرواح، ولا إشكال في قوله (منه) فإن المراد أن أمر الخلق كله راجع إلى الله ومبتدأ منه، وذلك كقوله سبحانه: ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [الجاثية:13].
وإذا كان النصارى يستشهدون بآيات القرآن على ما يعتقدون، فإن عليهم أن يستشهدوا بجميع نصوص القرآن الواردة في الموضوع، فلا يقتصرون على جملة هنا أو جملة هناك، فهذا لا يفعله منصف، فالتعبيرات القرآنية عن المسيح بأنه كلمة الله أو روح من الله، لا بد أن تفهم على ضوء الآيات الأخرى التي تنفي ألوهية المسيح وبنوته، وتكفر من يقول بهما، والتي تثبت براءة المسيح ممن يؤلهه أو يؤله أمه، والتي تثبت كذلك اعترافه ببشريته ولكنهم لا يفعلون ذلك لئلا يظهر بطلان استشهادهم على عقيدتهم الزائفة بآيات القرآن من جهة، وبطلان عقيدتهم نفسها من جهة أخرى.
وليكن معلوما أن القرآن حكم على النصارى بالكفر لعدة أمور، كل منها شاف كاف في تكفيرهم:
- ادعاؤهم أن المسيح هو الله أو ابن الله وأن الروح القدس إله، فهم يعبدون في الحقيقة ثلاثة آلهة وقد تقدم بيان ذلك.
- تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا* أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا [النساء:150-151]، وقال تعالى: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا [النساء:47]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.
- اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [التوبة:31].
وفي معجم الطبراني وغيره أن عدي بن حاتم وكان نصرانيا فأسلم لما سمع النبي يقرأ الآية المتقدمة قال له: إنا لا نعبدهم، فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه، قال: بلى، قال صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم.
والثابت من التتبع التاريخي لأطوار العقيدة النصرانية، أن عقيدة التثليث، وكذلك عقيدة بنوة المسيح لله -سبحانه- ومثلها عقيدة ألوهية أمه مريم، ودخولها في التثليثات المتعددة الأشكال ونحو ذلك من الانحرافات، كلها لم تصاحب النصرانية الأولى، إنما دخلت إليها على فترات متفاوتة التاريخ، مع الوثنيين الذي دخلوا في النصرانية، وهم لم يبرأوا بعد من التصورات الوثنية والآلهة المتعددة، وتتبع نقض ما في هذه الدراسة يطول وفيما ذكرناه -إن شاء الله- ما يتنبه به إلى بطلانها، وللفائدة انظر الفتوى رقم: 10326، والفتوى رقم: 8210.
والله أعلم.