0 561

السؤال

قرأت كتاب الداء و الدواء لابن القيم، فوجدت فيه ذما شديدا للخواطر الجنسية، وأنها لا تتمكن إلا من القلب الفارغ، فسؤالي هو إذا كانت الشهوة غريزة فطرية لا يملكها الإنسان؛ سواء أكان صالحا أو طالحا، فما هو الحد الذي يجعل هذه الخواطر مذمومة ويخرجها عن إطار مجرد الفطرة، هل يقصد ابن القيم ـ رحمه الله ـ تعمدها أو كثرة مرورها على العقل أو ماذا؟ أريد التوضيح، وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمن المعلوم أن المقصد الأصلي من هذا الكتاب النافع من كتب ابن القيم ـ رحمه الله ـ إنما هو تفصيل القول في مفسدة الزنا واللواط، وقد ذكر لها أربعة مداخل: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات، وقال: ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدما على حفظ الفرج، فإن الحوادث مبدأها من النظر، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر، فتكون نظرة، ثم خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة، ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات، والخطرات، واللفظات، والخطوات، فينبغي للعبد أن يكون بواب نفسه على هذه الأبواب الأربعة، ويلازم الرباط على ثغورها، فمنها يدخل عليه العدو... وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذه الأبواب الأربعة، فنذكر في كل واحد منها فصلا يليق به: فأما اللحظات فهي رائد الشهوة ورسولها...
وأما الخطرات فشأنها أصعب، فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه، وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قسرا إلى الهلكات، ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير منى باطلة... اهـ.
والمقصود أن ابن القيم ـ رحمه الله ـ يريد بذلك سد ذرائع المعاصي، وإغلاق منافذ الشيطان وقطع الطريق عليه.
وأما محل جواب سؤال السائل من كلام ابن القيم نفسه فواضح من قوله ـ رحمه الله ـ: واعلم أن ورود الخاطر لا يضر، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته، فالخاطر كالمار على الطريق، فإن لم تستدعه وتركته مر وانصرف عنك، وإن استدعيته سحرك بحديثه وخدعه وغروره. اهـ.

وقال النووي في (الأذكار): الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء، لأنه لا اختيار له في وقوعه، ولا طريق له إلى الانفكاك عنه. اهـ.
وقد ذكر ابن القيم في كتاب (الفوائد) قاعدة جليلة في أن مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، ومما قال في بيانها: الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها، ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها؛ فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى رفع أقبحها وكراهته له نفرته منه. اهـ.
فالمطلوب إذن هو مدافعة هذه الخواطر السيئة وعدم السكينة إليها، فضلا عن استجلابها واستدعائها، فإذا وجدت ودافعها الإنسان، كان ذلك من حسناته ورفعة درجاته، قال ابن القيم في (إعلام الموقعين) في قوله تعالى: إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها {الفتح:26}، قال: لما كانت حمية الجاهلية توجب من الأقوال والأعمال ما يناسبها، جعل الله في قلوب أوليائه سكينة تقابل حمية الجاهلية، وفي ألسنتهم كلمة التقوى مقابلة لما توجبه حمية الجاهلية من كلمة الفجور، فكان حظ المؤمنين السكينة في قلوبهم، وكلمة التقوى على ألسنتهم... وثمرة هذه السكينة: الطمأنينة للخير تصديقا وإيقانا، وللأمر تسليما وإذعانا، فلا تدع شبهة تعارض الخير ولا إرادة تعارض الأمر، فلا تمر معارضات السوء بالقلب إلا وهي مجتازة، من مرور الوساوس الشيطانية التي يبتلى بها العبد ليقوى إيمانه، ويعلو عند الله ميزانه، بمدافعتها وردها وعدم السكون إليها، فلا يظن المؤمن أنها لنقص درجته عند الله. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتويين التالية أرقامهما: 5473، 235318.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة