معرفة الحلال والحرام بسؤال أهل العلم وليس بالاستخارة

0 1020

السؤال

مشايخنا الكرام.
هل تنفع صلاة الاستخارة لمعرفة ما إذا كان القيام بفعل ما حراما أو حلالا؟
ولأوضح ذلك بأمثلة:
القتال بين علي، ومعاوية -رضي الله عنهما- إذا كان أحد عامة المسلمين عاميا وقتها، واحتار فيما يفعل، فصلى استخارة، فقاتل إلى جانب معاوية مثلا، وقتل من المسلمين أو قتل، أو العكس (قاتل إلى جانب علي) فهل يلحقه إثم ما دام صلى الاستخارة؟
أو هل تنفع الاستخارة في هذه الحالة؟
مثل آخر:
الصراع إبان ما يسمى بالثورة العربية الكبرى، في عهد العثمانيين. هل تنفع الاستخارة في هذه الحالة في مع من يقف؟
وهل إذا وقف مع أحد الطرفين بعد صلاته الاستخارة، وأصاب من دم المسلمين يلحقه إثم؟
مثل آخر: العمليات الاستشهادية في فلسطين فيها رأيان: واحد يقول إنها حرام، والآخر يقول حلال. فهل تنفع الاستخارة في هذه الحالة لمعرفة الاستشهادي، أنه إذا ما قام بفعل هو حلال أو حرام؟
وهل إذا صلى وعزم على الأمر، واستشهد بتفجير نفسه، لا يلحقه إثم إذا كانت تلك العمليات حراما؟
مثل آخر:
الثورات في عالمنا العربي، إذا ما قامت في دولة ما. فهل تنفع صلاة الاستخارة لمعرفة مع من يقف الشخص؟ وهل إذا أريقت الدماء لا يلحقه إثم ما دام قراره صادرا عن صلاة الاستخارة؟
وسؤال آخر: في حال حدوث الثورات، والبعض يسميها فتنا، كيف يميز أحدهم الحق؟ وماذا لو اجتهد وأخطأ؟
أريد أجوبة مفصلة، فقد قرأت جميع الفتاوي المتعلقة بالاستخارة، ولم أجد مبتغاي.
جزاكم الله خير الجزاء.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن الجاهل لا يستبين أحكامه بالاستخارة، ولا يتعرف بها على الحلال والحرام، بل يجب عليه التعلم، وسؤال أهل الذكر حتى يعلم حكم الله فيما يعمله، كما قال الله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون {النحل:43}.

وجاء في متن الأخضري في العبادات على مذهب الإمام مالك: ولا يحل له أن يفعل فعلا حتى يعلم حكم الله فيه، ويسأل العلماء، ويقتدي بالمتبعين لسنة صلى الله عليه وسلم ... اهـ.

وفي شرح الزرقاني على الموطأ: يجب على كل مكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه؛ لأنه يجب على كل أحد أن لا يفعل شيئا حتى يعلم حكم الله فيه...اهـ.

 وفي الفروق للقرافي: (الفرق الثالث والتسعون، بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح، وقاعدة الجهل يقدح، وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه) اعلم أن هذا الفرق بين هاتين القاعدتين، مبني على قاعدة، وهي أن الغزالي حكى الإجماع في إحياء علوم الدين، والشافعي في رسالته حكاه أيضا، في أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، فمن باع، وجب عليه أن يتعلم ما عينه الله، وشرعه في البيع، ومن آجر، وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله تعالى في الإجارة، ومن قارض، وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في القراض، ومن صلى، وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في تلك الصلاة، وكذلك الطهارة، وجميع الأقوال والأعمال، فمن تعلم، وعمل بمقتضى ما علم، أطاع الله تعالى طاعتين، ومن لم يعلم، ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين، ومن علم ولم يعمل بمقتضى علمه، فقد أطاع الله تعالى طاعة، وعصاه معصية. ويدل على هذه القاعدة أيضا من جهة القرآن، قوله تعالى حكاية عن نوح -عليه السلام- {إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم} [هود: 47] ومعناه: ما ليس لي بجواز سؤاله علم، فدل ذلك، على أنه لا يجوز له أن يقدم على الدعاء، والسؤال إلا بعد علمه بحكم الله تعالى في ذلك السؤال، وأنه جائز، وذلك سبب كونه -عليه السلام- عوتب على سؤال الله عز وجل لابنه، أن يكون معه في السفينة؛ لكونه سأل قبل العلم بحال الولد، وأنه مما ينبغي طلبه أم لا، فالعتب ،والجواب كلاهما يدل على أنه لا بد من تقديم العلم بما يريد الإنسان أن يشرع فيه. إذا تقرر هذا، فمثله أيضا قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36] نهى الله تعالى نبيه عليه السلام، عن اتباع غير المعلوم، فلا يجوز الشروع في شيء حتى يعلم، فيكون طلب العلم واجبا في كل حالة، ومنه قوله عليه السلام: طلب العلم فريضة على كل مسلم قال الشافعي -رحمه الله- طلب العلم قسمان: فرض عين، وفرض كفاية. ففرض العين: علمك بحالتك التي أنت فيها. وفرض الكفاية ما عدا ذلك. فإذا كان العلم بما يقدم الإنسان عليه واجبا، كان الجاهل في الصلاة، عاصيا بترك العلم، فهو كالمتعمد الترك بعد العلم بما وجب عليه، فهذا هو وجه قول مالك -رحمه الله-: إن الجهل في الصلاة كالعمد، والجاهل كالمتعمد، لا كالناسي. اهـ. 

وفي الذخيرة للقرافي: إذا فعل المكلف فعلا مختلفا في تحريمه، غير مقلد لأحد فهل نؤثمه بناء على القول بالتحريم، أو لا نؤثمه بناء على القول بالتحليل، مع أنه ليس إضافته إلى أحد المذهبين أولى من الآخر، ولم يسألنا عن مذهبنا، فنجيبه. ولم أر لأصحابنا فيه نصا، وكان الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام من الشافعية -قدس الله روحه- يقول في هذا الفرع: إنه آثم، من جهة أن كل أحد يجب عليه ألا يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيه، وهذا أقدم غير عالم، فهو آثم بترك التعلم. وأما تأثيمه بالفعل نفسه، فإن كان مما علم من الشرع قبحه، أثمناه، وإلا، فلا. اهـ.

 فقد تبين لك مما ذكر، أن الاستخارة لا يمكن أن تتخذ وسيلة للتمييز بين الحلال والحرام.

ولكن لو أن الشخص كان من أهل الاجتهاد، ولم تسعفه الأدلة في التوصل إلى الحكم الشرعي، أو أنه عامي، وقد سأل أهل العلم -كما هو واجبه- واختلفوا عليه، ولم يتضح له الحق، فإنه فيشرع له سؤال الله الهدى للحق في تلك المسألة.

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يهديه إلى الحق فيما اختلف فيه، كما في صحيح مسلم عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

وقد ذكرنا بالفتوى رقم: 229444  أن الاستخارة لاستبانة الحق في مسائل العلم، نقلت عن جمع من السلف، فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف: عن ابن المسيب, أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتابا, فمكث يستخير الله, يقول: اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه ـ حتى إذا طعن, دعا بالكتاب فمحا، فلم يدر أحد ما كان فيه, فقال: إني كتبت في الجد والكلالة كتابا, وكنت أستخير الله فيه, فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه.

وقد قال الإمام الشافعي في مسائل عدة في كتابه الأم: وهذا مما أستخير الله عز وجل فيه، منها قوله: وقد قيل في الحلي صدقة، وهذا مما أستخير الله عز وجل فيه، قال الربيع: قد استخار الله عز وجل فيه، أخبرنا الشافعي: وليس في الحلي زكاة. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة