السؤال
ما هي صخرة البراق؟ وهل لا تصل إليها يد أحد رغم قربها أمام الناس؟ نفعنا الله بعلمكم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه أما بعد:
فالصخرة التي تسمى اليوم: صخرة البراق، وعليها القبة المسماة: قبة الصخرة عند بيت المقدس، أصلها أنها صخرة كان يصلي إليها اليهود بعد موسى -عليه السلام-، وقد وجدت في زمانه، ولكنه -عليه السلام- لم يصل إليها، ولم يأمر اليهود بالصلاة إليها، إنما كانوا يصلون إلى التابوت في سنوات التيه، يحملونه معهم حيث ذهبوا، ويصلون إليه، فلما رفع، صلوا إلى الصخرة التي وضعوها عليه، وكان ذلك في عهد يوشع بن نون -عليه السلام-، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم، قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في كتاب الفوائد: ومعنى: (الحق من ربك) أي: الذي أمرتك به من التوجه إلى البيت الحرام، هو الحق الذي كان عليه الأنبياء قبلك، فلا تمتر في ذلك، فقال: (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم)، وقال: (وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون) أي: يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء، ثم ساق -أبا القاسم- من طريق أبي داود في كتاب الناسخ والمنسوخ قال: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا عنبسة، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: كان سليمان بن عبد الملك لا يعظم إيليا، كما عظمها أهل بيته، قال: فسرت معه وهو ولي عهد، قال: ومعه خالد بن يزيد بن معاوية، فقال سليمان، وهو جالس فيه: والله، إن في هذه القبلة التي صلى إليها المسلمون والنصارى لعجبا -كذا رأيته، والصواب: واليهود- قال خالد بن يزيد: أما والله، إني لأقرأ الكتاب الذي أنزله الله على محمد، فلم تجدها اليهود في الكتاب الذي أنزل الله عليهم، ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة، فلما غضب الله عز وجل على بني إسرائيل، رفعه، فكانت صلاتهم إلى الصخرة عن مشاورة منهم. وروى أبو داود أيضا أن يهوديا خاصم أبا العالية في القبلة، فقال أبو العالية: إن موسى كان يصلي عند الصخرة، ويستقبل البيت الحرام، فكانت الكعبة قبلته، وكانت الصخرة بين يديه، وقال اليهودي: بيني وبينك مسجد صالح النبي، قال أبو العالية: فإني صليت في مسجد صالح النبي، وقبلته الكعبة.
قلت: -والكلام لابن القيم- وقد تضمن هذا الفصل فائدة جليلة، وهي: أن استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحي، والتوقيف من الله، بل كان عن مشورة منهم، واجتهاد، أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم في الإنجيل، ولا في غيره باستقبال المشرق، وهم مقرون بذلك، ومقرون أن قبلة المسيح كانت قبلة بني إسرائيل، وهي الصخرة، وإنما وضع لهم شيوخهم، وأسلافهم هذه القبلة.
إلى أن يقول: وأما قبلة اليهود، فليس في التوراة الأمر باستقبال الصخرة ألبتة، وإنما كانوا ينصبون التابوت، ويصلون إليه من حيث خرجوا، فإذا قدموا، نصبوه على الصخرة، وصلوا إليه، فلما رفع، صلوا على موضعه، وهو الصخرة. انتهى.
فهذه قصة الصخرة عن اليهود، فكانوا يعظمونها رغم أن أنبياءهم لم يأمروهم بذلك.
أما في الإسلام: فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط البراق بها، روى ابن حبان في صحيحه عن بريدة بن الحصيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما كان ليلة أسري بي، انتهيت إلى بيت المقدس، فخرق جبريل الصخرة بإصبعه، وشد بها البراق.
وليس لها أية فضيلة ثابتة في شيء من الأحاديث، كما ذكر عدد من العلماء -كابن تيمية، وابن القيم-، ولا يصح فيها حديث، قال ابن القيم في كتاب: المنار المنيف: فصل: ومن ذلك -يعني من الحديث الموضوع- الحديث الذي يروى في الصخرة أنها عرش الله الأدنى. تعالى الله عن كذب المفترين. ولما سمع عروة بن الزبير هذا، قال: سبحان الله، يقول الله تعالى: وسع كرسيه السماوات والأرض (البقرة: 255) وتكون الصخرة عرشه الأدنى!؟. ثم بين العلامة ابن القيم بعد إيراده هذا الأثر أن كل ما جاء في الصخرة من الأحاديث، فهو كذب مختلق موضوع.
أما بناء القبة عليها وتعظيمها، فقد كان في زمان عبد الملك بن مروان صرفا للناس عن الذهاب لمكة؛ لما كان عبد الله بن الزبير مسيطرا عليها، وكان مناوئا لعبد الملك.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كلام قيم مطول في كتابه القيم: (اقتضاء الصراط المستقيم)، نقتصر على نقل جزء منه، قال هناك: وكانت الصخرة مكشوفة، ولم يكن أحد من الصحابة، ولا ولاتهم، ولا علماؤهم يخصها بعبادة، وكانت مكشوفة في خلافة عمر، وعثمان على الشام، وكذلك في خلافة علي -رضي الله عنه-، وإن كان لم يحكم عليها، ثم كذلك في إمارة معاوية، وابنه، وابن ابنه، فلما كان في زمن عبد الملك، وجرى بينه وبين ابن الزبير من الفتنة ما جرى، كان هو الذي بنى القبة على الصخرة، وقد قيل: إن الناس كانوا يقصدون الحج، فيجتمعون بابن الزبير، أو يقصدونه بحجة الحج، فعظم عبد الملك شأن الصخرة بما بناه عليها، وجعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف؛ ليكثر قصد الناس لبيت المقدس، فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير، والناس على دين الملوك، وظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن المسلمون يعرفونه بمثل هذا، وصار بعض الناس ينقلون الإسرائليات في تعظيمها، حتى روى بعضهم عن كعب الأحبار، عن عبد الملك بن مروان، وعروة بن الزبير حاضر: إن الله قال للصخرة: أنت عرشي الأدنى، فقال عروة: يقول الله تعالى: وسع كرسيه السماوات والأرض، وأنت تقول: إن الصخرة عرشه؟! وأمثال هذا. ولا ريب أن الخلفاء الراشدين لم يبنوا هذه القبة، ولا كان الصحابة يعظمون الصخرة، ولا يتحرون الصلاة عندها، حتى ابن عمر -رضي الله عنهما- مع كونه يأتي من الحجاز إلى المسجد الأقصى، كان لا يأتي الصخرة، فلم يبق في شريعتنا ما يوجب تخصيصها بحكم. انتهى.
أما ما ورد في السؤال من كون أنه لا يمكن أن تصل إليها يد، فهو الكذب المفترى، الذي يشهد بتكذيبه الحس، والواقع، ونظيره ما روي أنها معلقة بين السماء والأرض، وأن الملائكة تمسكها، فقد فند هذه الدعوى الألوسي في روح المعاني عند تفسير سورة الإسراء، وكذلك ابن القيم في كتابه: (نقد المنقول)، فليراجعا.
والله أعلم.