الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه أما بعد:
فالمقصر في طلب العلم، ملوم بلا شك، ولكن هل يكون إثمه إثم فاعل الذنب، أو يأثم إثما دون ذلك لأجل تقصيره في التعلم؟ هذا محل نظر.
وقد تردد الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في هذا البحث، فقال: ولهذا نقول: كل إنسان فعل شيئا محرما جاهلا به، فإنه ليس عليه إثم، ولا يترتب عليه عقوبة؛ لأن الله تعالى أرحم من أن يعذب من لم يتعمد مخالفته، ومعصيته. ولكن يبقى النظر إذا فرط الإنسان في طلب الحق، بأن كان متهاونا، ورأى ما عليه الناس، ففعله دون أن يبحث، فهذا قد يكون آثما، بل هو آثم بالتقصير في طلب الحق، وقد يكون غير معذور في هذه الحال، وقد يكون معذورا إذا كان لم يطرأ على باله أن هذا الفعل مخالفة، وليس عنده من ينبهه من العلماء، ففي هذه الحال يكون معذورا، ولهذا كان القول الراجح أنه لو عاش أحد في البادية بعيدا عن المدن، وكان لا يصوم رمضان، ظنا منه أنه ليس بواجب، أو كان يجامع زوجته في رمضان، ظنا منه أن الجماع حلال، فإنه ليس عليه قضاء؛ لأنه جاهل، ومن شرط التكليف بالشريعة أن تبلغ المكلف فيعلمها.
فالخلاصة إذا: أن الإنسان يعذر بالجهل، لكن لا يعذر في تقصيره في طلب الحق. انتهى.
وقال أيضا: لكن قد يكون الإنسان مفرطا في طلب العلم، فيأثم من هذه الناحية، أي: أنه قد يتيسر له أن يتعلم؛ لكن لا يهتم، أو يقال له: هذا حرام؛ ولكن لا يهتم، فهنا يكون مقصرا من هذه الناحية، ويأثم بذلك. أما رجل عاش بين أناس يفعلون المعصية، ولا يرون إلا أنها مباحة، ثم نقول: هذا يأثم، وهو لم تبلغه الرسالة، هذا بعيد.
وقال أيضا: ولكن قد لا يعذر الإنسان بالجهل، وذلك إذا كان بإمكانه أن يتعلم ولم يفعل، مع قيام الشبهة عنده، كرجل قيل له: هذا محرم، وكان يعتقد الحل، فسوف تكون عنده شبهة على الأقل، فعندئذ يلزمه أن يتعلم ليصل إلى الحكم بيقين. فهذا ربما لا نعذره بجهله؛ لأنه فرط في التعليم، والتفريط يسقط العذر، لكن من كان جاهلا، ولم يكن عنده أي شبهة، ويعتقد أن ما هو عليه حق، أو يقول هذا على أنه الحق، فهذا لا شك أنه لا يريد المخالفة، ولم يرد المعصية والكفر، فلا يمكن أن نكفره حتى ولو كان جاهلا بأصل من أصول الدين. اهـ.
فواضح من هذه النصوص التي نقلناها عن الشيخ، أنه يرى أن المقصر في طلب العلم غير معذور لتقصيره، وخاصة إذا قامت لديه شبهة توجب السؤال والبحث، ولكنه لا يجزم بأن إثمه هو إثم من واقع الذنب عالما.
ولذا فإننا نقرر أنه يأثم لتقصيره في طلب العلم الواجب، وأما مقدار ما عليه من التبعة، فمرده إلى الله تعالى، ومن العلماء المتقدمين من قرر أن هذا المقصر يأثم إثم فاعل الحرام، أو تارك الواجب، بل قد يزيد إثمه عليه؛ لكونه آثما من جهتين.
قال القرافي في الفروق: فإذا كان العلم بما يقدم عليه الإنسان واجبا، كان الجاهل في الصلاة عاصيا بترك العلم، فهو كالمتعمد الترك بعد العلم بما وجب عليه. انتهى.
وقال أيضا -رحمه الله- في الفروق: القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه، لا يكون حجة للجاهل؛ فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله، وأوجب عليهم كافة أن يعلموها، ثم يعملوا بها، فالعلم والعمل بها واجبان، فمن ترك التعلم والعمل، وبقي جاهلا: فقد عصى معصيتين، لتركه واجبين. انتهى.
ومن العلماء من فرق بين أنواع المسائل بحسب ظهور قبحها في الشرع، وعدمه.
قال العز بن عبد السلام -رحمه الله تعالى- فيمن فعل مختلفا في تحريمه، من غير أن يقلد أحدا: هو آثم من جهة أن كل أحد لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، وهذا أقدم غير عالم، فهو آثم بترك التعلم، وأما تأثيمه بالفعل نفسه، فإن كان مما علم في الشرع قبحه أثمناه، وإلا فلا. انتهى.
فهذا حاصل ما للعلماء في هذه المسألة، وبه يتبين لك جواب المسائل التي أوردتها ونظائرها.
والله أعلم.