السؤال
إذا كان الله على كل شيء قدير، فلماذا لا يدخلنا جميعا الجنة، ويؤلف بين قلوبنا؟ وماذا يستفيد عندما يعذب خلقه؟ أليس هو الرحيم؟
إذا كان الله على كل شيء قدير، فلماذا لا يدخلنا جميعا الجنة، ويؤلف بين قلوبنا؟ وماذا يستفيد عندما يعذب خلقه؟ أليس هو الرحيم؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأنه أرحم الراحمين، وهو سبحانه كذلك بكل شيء عليم، وهو الحكم العدل الحق المبين، وله الحجة البالغة، والحكمة التامة، في خلقه وأمره، وفي قدره وشرعه، وقد بين سبحانه في كتابه الحكمة من خلقه الخلق على الهيئة التي نعرفها، متفاوتين في كل شيء: خلقا وخلقا، علما وعملا، صلاحا وفسادا، فقال تعالى: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا {الملك: 2}، وقال سبحانه: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين {العنكبوت2ـ3}، وقال عز وجل: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب {آل عمران: 179}.
فالتمييز بين الخبيث والطيب، بين الصادق والكاذب، بين المؤمن والمنافق، لا يكون إلا بالابتلاء، والفتنة، والتمحيص، ولولا ذلك لفاز بالجنة من ليس لها بأهل، ولنجا من النار من هو لها أهل، قال الله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا {البقرة: 214}، وقال سبحانه: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين {آل عمران: 142}.
ولذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن تحاط الجنة بالمكاره والشدائد، والنار بالشهوات والملذات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات. رواه البخاري ومسلم.
قال القاضي عياض في إكمال المعلم: من بديع الكلام وجوامعه الذي أوتيه عليه السلام من التمثيل الحسن، فإن حفاف الشيء جوانبه، فكأنه أخبر عليه السلام أنه لا يوصل إلى الجنة إلا بتخطي المكاره، وكذلك الشهوات وما تميل إليه النفوس، وأن اتباع الشهوات يلقي في النار ويدخلها، وأنه لا ينجو منها إلا من تجنب الشهوات، فيه تنبيه على اجتنابها. اهـ.
وقال النووي: أما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة، والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات، ونحو ذلك، وأما الشهوات التي النار محفوفة بها، فالظاهر أنها الشهوات المحرمة، كالخمر، والزنا، والنظر إلى الأجنبية، والغيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك، وأما الشهوات المباحة فلا تدخل في هذه، لكن يكره الإكثار منها؛ مخافة أن يجر إلى المحرمة، أو يقسي القلب، أو يشغل عن الطاعات، أو يحوج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا. اهـ.
وقال ابن القيم في مقدمة كتابه ـ في وصف الجنة ـ حادي الأرواح:
وما ذاك إلا غيرة أن ينالها ... سوى كفئها والرب بالخلق أعلم
وإن حجبت عنا بكل كريهة ... وحفت بما يؤذي النفوس ويؤلم
فلله ما في حشوها من مسرة ... وأصناف لذات بها يتنعم.
وقد كثر في القرآن التصريح بأن الله تعالى لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، مؤمنة مهتدية، ولكن أبت حكمته ذلك، واقتضت أن يخلق للناس مشيئة واختيارا، بها يتمايزون، وعليها يحاسبون، وأقام حجته عليهم بالوحي والبيان، فأرسل الرسل، وأنزل الكتب، فمن اتبع هداه فلا يضل ولا يشقى، وإن أعرض عن ذلك فلا يلومن إلا نفسه، قال تعالى: ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين {الأنعام: 35}، وقال: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين {يونس: 99}، وقال: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين {السجدة: 13}، وقال: وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين {النحل: 9}، وقال: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون {النحل: 93}، وقال: ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير {الشورى: 8}، وقال: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين {هود: 118ـ 119}.
قال السعدي: يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي، فإن مشيئته غير قاصرة، ولا يمتنع عليه شيء، ولكنه اقتضت حكمته أن لا يزالوا مختلفين، مخالفين للصراط المستقيم، متبعين للسبل الموصلة إلى النار، كل يرى الحق، فيما قاله، والضلال في قول غيره: إلا من رحم ربك ـ فهداهم إلى العلم بالحق، والعمل به، والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة، وتداركتهم العناية الربانية، والتوفيق الإلهي، وأما من عداهم، فهم مخذولون موكولون إلى أنفسهم، وقوله: ولذلك خلقهم ـ أي: اقتضت حكمته أنه خلقهم، ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذين هدى الله، والفريق الذين حقت عليهم الضلالة، ليتبين للعباد عدله، وحكمته، وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء. اهـ.
وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى التالية أرقامها: 294859، 69481، 182551، 5492، 134162، 117638.
والله أعلم.