السؤال
في قوله تعالى في سورة البقرة: (إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) {البقرة:6} أو لم يكن من الأنسب أن يقول: (إن الكافرين سواء عليهم ءأنذرتهم...) الآية، وأنسب من ذلك وذلك أن يقول: (إن الكفار سواء عليهم ءأنذرتهم...) الآية.
فلماذا عدل في الآية من الأنسب إلى الأقل مناسبة؟ أرجو الرد، وشكرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالآية الكريمة جاءت في موقعها بأحسن الألفاظ وأسهلها، وأبلغ العبارات وأوضحها، وذلك شأن القرآن العظيم كله؛ فكل آية منه، وكل كلمة، بل كل حرف في موضع منه، يأتي في مكانه المناسب، وبلفظه البليغ، وهذا أحد مظاهر إعجاز القرآن الكريم الكثيرة، التي يتبين من خلالها للعاقل المتأمل المنصف، أنه كلام الله تعالى الذي: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد {فصلت:42}.
وإذا تأملنا في الآية المذكورة، نجد أنها قطعت عن الجملة قبلها، وصدرت بحرف: "إن" وبعدها بالموصول: "الذين"، ومن الحكم في قطعها عما قبلها -كما قال أهل التفسير- لكمال الانقطاع والاختلاف بين الجملتين، ومن حكم التصدير بـ: "إن" المؤكدة: الاهتمام بالخبر وغرابته، ومن حكم الإتيان بعدها بالموصول: "الذين" للعهد؛ لأن المراد قوم معهودون من أهل الكفر والشرك، وهم كفار مكة، الذين حادوا الله ورسوله، وأشربوا في قلوبهم الكفر، وعلم الله أنهم لن يستجيبوا للرسول، وليسوا مطلق الكافرين؛ لأن كثيرا من الكفار آمن في ذلك الوقت، وبعده إلى يوم الناس هذا.
وقد بين ابن عاشور هذه المعاني بأوضح عبارة في التحرير والتنوير، فقال -رحمه الله-: إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) هذا انتقال من الثناء على الكتاب ومتقلديه، ووصف هديه، وأثر ذلك الهدي في الذين اهتدوا به، والثناء عليهم الراجع إلى الثناء على الكتاب، لما كان الثناء إنما يظهر إذا تحققت آثار الصفة التي استحق بها الثناء، ولما كان الشيء قد يقدر بضده، انتقل إلى الكلام على الذين لا يحصل لهم الاهتداء بهذا الكتاب، وسجل أن حرمانهم من الاهتداء بهديه، إنما كان من خبث أنفسهم؛ إذ نبوا بها عن ذلك، فما كانوا من الذين يفكرون في عاقبة أمورهم، ويحذرون من سوء العواقب، فلم يكونوا من المتقين، وكان سواء عندهم الإنذار وعدمه، فلم يتلقوا الإنذار بالتأمل، بل كان سواء والعدم عندهم، وقد قرنت الآيات فريقين: فريقا أضمر الكفر وأعلنه، وهم من المشركين، كما هو غالب اصطلاح القرآن في لفظ: الذين كفروا، وفريقا أظهر الإيمان وهو مخادع، وهم المنافقون المشار إليهم بقوله تعالى: ومن الناس من يقول آمنا [البقرة: 8].
وإنما قطعت هاته الجملة عن التي قبلها؛ لأن بينهما كمال الانقطاع؛ إذ الجمل السابقة لذكر الهدى والمهتدين، وهذه لذكر الضالين، فبينهما الانقطاع لأجل التضاد، ويعلم أن هؤلاء قسم مضاد للقسمين المذكورين قبله من سياق المقابلة. وتصدير الجملة بحرف التأكيد: إما لمجرد الاهتمام بالخبر وغرابته، دون رد الإنكار أو الشك؛ لأن الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وللأمة، وهو خطاب أنف بحيث لم يسبق شك في وقوعه، ومجيء (إن) للاهتمام كثير في الكلام، وهو في القرآن كثير، وقد تكون (إن) هنا لرد الشك تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن حرص النبيء صلى الله عليه وسلم على هداية الكافرين تجعله لا يقطع الرجاء في نفع الإنذار لهم، وحاله كحال من شك في نفع الإنذار، أو لأن السامعين لما أجري على الكتاب من الثناء ببلوغه الدرجة القصوى في الهداية، يطمعهم أن تؤثر هدايته في الكافرين المعرضين، وتجعلهم كالذين يشكون في أن يكون الإنذار وعدمه سواء، فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، ونزل غير الشاك منزلة الشاك. وقد تبين أن (الذين كفروا) المذكورين هنا هم فريق من المشركين الذين هم مأيوس من إيمانهم، فالإتيان في ذكرهم بالتعريف بالموصول، إما أن يكون لتعريف العهد مرادا منه قوم معهودون -كأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأضرابهم من رؤوس الشرك، وزعماء العناد- دون من كان مشركا في أيام نزول هذه الآية... وإما أن يكون الموصول لتعريف الجنس المفيد للاستغراق، على أن المراد من الكفر أبلغ أنواعه، بقرينة قوله: لا يؤمنون، فيكون عاما مخصوصا بالحس؛ لمشاهدة من آمن منهم، أو يكون عاما مرادا به الخصوص بالقرينة، وهذان الوجهان هما اللذان اقتصر عليهما المحققون من المفسرين، وهما ناظران إلى أن الله أخبر عن هؤلاء بأنهم لا يؤمنون، فتعين أن يكونوا ممن تبين بعد أنه مات على الكفر. اهـ.
ومن هذا؛ تعلم أن اللفظ المذكور هو وحده المناسب، وهو الذي يؤدي المعاني المذكورة، وغيرها.
هذا وننبهك إلى أننا لاحظنا من خلال أسئلتك، أنها كلها ليست أسئلة مستفهم يطلب المعلومة، أو الحقيقة العلمية؛ لأنها تدور حول محور واحد هو محاولة الطعن في القرآن الكريم عن طريق الأسئلة المتعنتة، والمغالطة أحيانا، وبأسلوب غير لائق، وغير مقبول نهائيا، ولا يخفى أن الاشتغال بهذا النوع من الأسئلة ليس شأن من يبحث عن الحقيقة، والمعلومة المفيدة، ولكنه شأن أعداء الإسلام الذين يبحثون عن الطعن فيه بكل وسيلة، حتى ولو كانت غير منطقية، وما مثل هؤلاء إلا كما قال القائل:
كناطح صخرة يوما ليوهنها * فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل.
ولذلك فإننا ننصحك بتدبر كتاب الله تعالى -بعقل منصف- والتأمل في بلاغته، وسلاسة ألفاظه، وعذوبة أسلوبه عندما تتأمل حديثه عن أي مجال من مجالات الحياة الدنيا، أو الحياة الأخرى، بدلا من محاولة تتبعه بقصد النيل منه؛ فإن من أصدق الأدلة على أنه الدرجة العليا في البلاغة، وحسن الأسلوب، أنه نزل والعرب في قمة العناية بلغتهم خطابة وشعرا ونقدا.. ومع ذلك لم يستطيعوا أن يطعنوا فيه من هذه الناحية، مع شدة حرصهم على أن يجدوا لذلك منفذا، بل تعددت عباراتهم التي تصفه بالحلاوة، والفصاحة، والبلاغة، ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: ليعطوكه؛ فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، أو أنك كاره له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وأنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره. فنزلت: ذرني ومن خلقت وحيدا {المدثر:11}. رواه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري، ولم يخرجاه. قال الذهبي في التلخيص: على شرط البخاري.
كما ننبهك إلى أن مركز الفتوى مختص أساسا بإجابة السائلين بالعلم الشرعي، فيما يحتاجون إليه في عباداتهم، ومعاملاتهم وأخلاقهم، وما يشكل عليهم من أمر دينهم؛ لذلك فإننا نرحب بأسئلتك الموضوعية، والهادفة في هذا الموضوع -نسأل الله أن يرينا الحق حقا، ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلا، ولا يجعنا أتباعه-.
والله أعلم.