الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

التوفيق بين قول الله: وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، وبين قوله: فإنهم لا يكذبونك

السؤال

كيف نجمع بين قول الله تعالى: "وقال الكافرون هذا ساحر كذاب" في سورة ص، آية 4، وبين قوله تعالى: "فإنهم لا يكذبونك" في سورة الأنعام، آية 33؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن التكذيب قد يطلق مرادًا به نسبة الشخص للكذب، مع اعتقاد كونه صادقًا، وقد يراد به نسبته للكذب، مع اعتقاد كذبه، ومن الأول ما حصل من بعض الكفار، فإنهم كانوا يعتقدون صدق وأمانة النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ولكن ينسبون الكذب إليه عنادًا منهم، وخوفًا على مكانتهم، وصرفًا للعوام عنه صَلَّى الله عليه وسلم.

فقد قال ابن القيم في التبيان في أقسام القرآن: يقال كذب الرجل، إذا قال الكذب، وكذبته أنا، إذا نسبته إلى الكذب، ولو اعتقدت صدقه، وكذبته إذا اعتقدت كذبه وإن كان صادقًا، قال تعالى: {فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك}، وقال: {فإنهم لا يكذبونك}.
فالأول: بمعنى وإن ينسبوك إلى الكذب.
والثاني: بمعنى لا يعتقدون أنك كاذب، ولكنهم يعاندون ويدفعون الحق بعد معرفته جحودًا وعنادًا، هذا أصل هذه اللفظة، ويتعدى الفعل إلى الخبر بنفسه، وإلى خبره بالباء ونفي، فيقال: كذبته بكذا، وكذبته فيه، والأول أكثر استعمالاً، ومنه قوله: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم}، وقوله: {وكذبوا بآياتنا}
. اهـ.

وقال بدر الدين الكناني في كشف المعاني في المتشابه من المثاني: قوله تعالى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ)، وفي آخر السورة: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ) الآية؟ جوابه: أنهم لا يكذبونك في الباطن؛ لأنك عندهم معروف بالأمين، وإنما يكذبونك في الظاهر، ليصدوا عنك. اهـ.

وقال الواحدي في التفسير البسيط: واختلفوا في معنى قوله: {فإنهم لا يكذبونك}، فقال ابن عباس: {فإنهم لا يكذبونك} في السر قد علموا أنك صادق: {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} بمحمد والقرآن في العلانية، وهذا قول أكثر المفسرين: أبي صالح، وقتادة، والسدي، ومقاتل، قالوا: (هذا في المعاندين الذين عرفوا صدق محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه غير كاذب فيما يقول، ولكن عاندوا وجحدوا.
يدل على هذا ما قال مقاتل: (نزلت في الحارث بن عامر، كان يكذّب النبي -صلى الله عليه وسلم- في العلانية، فإذا خلا مع أهله قال: ما محمد من أهل الكذب، نعلم أن الذي يقوله حق، ولا يمنعنا من أن نتبعه إلا المخافة من أن يتخطفنا الناس من أرضنا -يعني: العرب- فإنا أَكَلَةُ رَأْسٍ
، ولا طاقة لنا بهم؛ فأنزل الله تعالى: {قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} في العلانية أنك كذاب ومفتر {فإنهم لا يكذبونك} في السر يعلمون أنك صادق، وقد جربوا منك الصدق فيما مضى، {ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} بالقرآن بعد المعرفة). ونحو هذا قال الكلبي سواء.
وقال السدي، وأبو ميسرة، وأبو يزيد المدني، وناجية بن كعب: نزلت الآية في أبي جهل قال: يا محمد؛ ما نكذبك ولا نتهمك، وإنك عندنا لمصدق، ولكنا نكذب ما جئتنا به، ولا نكون تبعًا لعبد مناف، فأنزل الله هذه الآية. اهـ.

وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: والذي يستخلص من سياق الآية أن المراد: فإنهم لا يعتقدون أنك كاذب؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- معروف عندهم بالصدق، وكان يلقب بينهم بالأمين.
وقد قال النضر بن الحارث لما تشاورت قريش في شأن الرسول: «يا معشر قريش، قد كان محمد فيكم غلامًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه قلتم ساحر، وقلتم كاهن، وقلتم شاعر، وقلتم مجنون، ووالله ما هو بأولئكم. ولأن الآيات التي جاء بها لا يمتري أحد في أنها من عند الله، ولأن دلائل صدقه بيّنة واضحة، ولكنكم ظالمون
. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني