السؤال
سؤال يحيرني، وبسببه قد أدخل إلى عالم مظلم من التفكير ، وهو إذا كان للإنسان مصير محدد منذ ولادته ـ أي المكتوب ـ كما نقول نحن، فما المغزى من هذه الحياة ـ طبعا لعبادة الله وحده ـ لكن إذا كان مصير إنسان لما يزيد؟ هو دخول النار، فكيف يغير مصيره؟ وإذا كان حقا مصيره الجنة أو النار، فلماذا يختبر في الحياة، ربما تخطيت الحدود.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الإشكال إنما يتوجه على مذهب الجبرية، وأما أهل السنة فيؤمنون بالقدر، ويثبتون مع ذلك للعبد قدرة واختيارا وكسبا، تتعلق بها التكاليف الشرعية من الإيمان والعمل الصالح، فهم لا يقولون: إن الإنسان مسير أو مخير، بل يجمعون بين الصحيح من المعنيين فيقولون: ميسر لما خلق له، ولذلك لا يصح إشكال السائل على هذا المذهب الحق، وبذلك أجاب النبي صلى الله عليه وسلم على نحو هذا الإشكال، فعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم جالسا وفي يده عود ينكت به، فرفع رأسه فقال: ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار، قالوا: يا رسول الله فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال: لا، اعملوا، فكل ميسر لما خلق له، ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى {الليل: 6} إلى قوله: فسنيسره للعسرى {الليل: 10}. رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: حاصل السؤال ألا نترك مشقة العمل، فإنا سنصير إلى ما قدر علينا، وحاصل الجواب: لا مشقة، لأن كل أحد ميسر لما خلق له، وهو يسير على من يسره الله، قال الطيبي: الجواب من الأسلوب الحكيم منعهم عن ترك العمل، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية، وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة، فلا يجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار، بل هي علامات فقط. اهـ.
وقال الخطابي في معالم السنن: هذا الحديث إذا تأملته أصبت منه الشفاء فيما يتخالجك من أمر القدر، وذلك أن السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم والقائل له: أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل ـ لم يترك شيئا مما يدخل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في باب التجوير والتعديل إلا وقد طالب به وسأل عنه، فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك، والمطالبة عليه ساقطة، وأنه أمر لا يشبه الأمور المعلومة التي قد عقلت معانيها وجرت معاملات البشر فيما بينهم عليها، وأخبر أنه إنما أمرهم بالعمل ليكون أمارة في الحال العاجلة لما يصيرون إليه في الحال الآجلة، فمن تيسر له العمل الصالح كان مأمولا له الفوز، ومن تيسر له العمل الخبيث كان مخوفا عليه الهلاك، وهذه أمارات من جهة العلم الظاهر، وليست بموجبات، فإن الله سبحانه طوى علم الغيب عن خلقه وحجبهم عن دركه، كما أخفى أمر الساعة فلا يعلم أحد متى أبان قيامها، ثم أخبر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أماراتها وأشراطها فقال: من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة يتطاولون في البنيان، ومنها كيت وكيت. اهـ.
وقال في أعلام الحديث: معنى قولهم: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ـ مطالبة منهم بموجب أمر تحته تعطيل العبودية، وذلك أن إخباره صلى الله عليه وسلم إياهم عن سبق الكتاب بسعادة السعيد وشقاوة الشقي إخبار عن غيب علم الله فيهم وهو حجته عليهم، فرام القوم أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل ويتكلوا على الكتاب السابق، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن هاهنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر: باطن، هو العلة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر، هو السمة اللازمة في حق العبودية، وإنما هو أمارة مخيلة في مطالعة علم العواقب غير مفيدة حقيقة العلم به، ويشبه أن يكونوا ـ والله أعلم ـ إنما عوملوا بهذه المعاملة، وتعبدوا بهذا النوع من التعبد، ليتعلق خوفهم بالباطن المغيب عنهم، ورجاؤهم بالظاهر البادي لهم، والخوف والرجاء مدرجتا العبودية، فيستكملوا بذلك صفة الإيمان، وبين لهم أن كلا ميسر لما خلق له، وأن عمله في العاجل دليل مصيره في الآجل، ولذلك يمثل بقوله عز وجل: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ـ وهذه الأمور إنما هي في حكم الظاهر من أحوال العباد، ومن وراء ذلك علم الله فيهم وهو الحكيم الخبير: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. اهـ.
وقد سبق لنا مزيد تفصيل في ذلك، وبيان أدلته وكلام أهل العلم بخصوصه، في عدة فتاوى، منها الفتاوى التالية أرقامها: 79824، 168661، 95359.
والله أعلم.