الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فأما قول السائل: حديث أنهار سيحون وجيحون، الذي لم يكتشفه المسلمون إلا في نهاية القرن الأول من الهجرة، فلعله يريد حديث أبي هريرة مرفوعا: سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كل من أنهار الجنة. رواه مسلم.
فيسأل: كيف يتفق ذلك مع ما نعرفه من منبع ومصب هذه الأنهار على الأرض؟
وقد تعددت أجوبة أهل العلم على هذا السؤال، فقال أبو العباس القرطبي في المفهم: ظاهر هذا الحديث أن أصل هذه الأنهار ومادتها من الجنة... ويحتمل أن يكون المراد أنها تشبه أنهار الجنة في عذوبتها، وبركاتها.
وأبعد من هذا احتمال أن يكون المراد بذلك: أن الإيمان غمر بلاد هذه الأنهار، وفاض عليها، وأن غالب الأجسام المتغذية بهذه المياه، مصيرها إلى الجنة. اهـ.
والاحتمال الثاني هو الذي اختاره ابن كثير، واستبعد غيره، فقال في البداية والنهاية: كأن المراد ـ والله أعلم ـ من هذا: أن هذه الأنهار تشبه أنهار الجنة في صفائها، وعذوبتها، وجريانها، ومن جنس تلك في هذه الصفات، ونحوها، كما قال في الحديث الآخر الذي رواه الترمذي، وصححه.. العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم ـ أي: تشبه ثمر الجنة، لا أنها مجتناة من الجنة، فإن الحس يشهد بخلاف ذلك، فتعين أن المراد غيره، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء ـ وكذا قوله: شدة الحر من فيح جهنم ـ وهكذا هذه الأنهار أصل منبعها مشاهد من الأرض. اهـ.
وعلى هذا النحو جرى ابن حزم في المحلى، فقال: وهذان الحديثان ـ يعني حديث الأنهار هذا، وحديث: بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ـ ليس على ما يظنه أهل الجهل من أن تلك الروضة قطعة منقطعة من الجنة، وأن هذه الأنهار مهبطة من الجنة، هذا باطل وكذب؛ لأن الله تعالى يقول في الجنة: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى {طه: 118ـ 119}، فهذه صفة الجنة بلا شك، وليست هذه صفة الأنهار المذكورة، ولا تلك الروضة، ورسول الله عليه السلام لا يقول إلا الحق، فصح أن كون تلك الروضة من الجنة، إنما هو لفضلها، وأن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة، وأن تلك الأنهار لبركتها أضيفت إلى الجنة، كما تقول في اليوم الطيب: هذا من أيام الجنة، وكما قيل في الضأن: إنها من دواب الجنة، وكما قال عليه السلام: إن الجنة تحت ظلال السيوف ـ فهذا في أرض الكفر بلا شك. اهـ.
وأما حديث طواف نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ فدعوى أنه مخالف للعقل، وللواقع المتعارف عليه في قوى عامة البشر، إنما تتوجه إذا أنكرنا الكرامات، فضلا عن المعجزات! فالله عز وجل قد خص بعض خلقه بما لا يقدر عليه عامتهم، فما المستغرب من هذا!؟
وأما السؤال عن وقت التعبد والتهجد، والنوم، وشؤون البلاد والعباد، وإدارة الدولة؟
فهو الآخر إنما يتوجه لو كانت هذه عادة متكررة في كل الأيام، أو أكثرها، أو حتى كثير منها، وليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل ظاهره أن هذا حدث مرة واحدة.
وأما العملية الحسابية المنقولة في السؤال: ففيها تحكم مشين! وإلا فيمكن أن تستبدل بالخمس عشرة دقيقة: عشر دقائق، أو خمس، ويزول الإشكال! على أن عدد النساء قد اختلفت فيه روايات الحديث، كما سبق بيانه في الفتوى رقم: 202801.
وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للإفتاء عن هذا الحديث، وفيه: لكن مفهوم الحديث خلاف للعقل، والشعور صريحا... لأن كل إنسان إن حاسب في نفسه، فوضح عليه أن فرض عدد الأزواج ستون 60، إن باشرهن سليمان عليه السلام، في ساعة 6 أزواج، باشرهن كل الليل بغير توقف متواليا عشر ساعة، فهل هذا ممكن عقلا؟
.. فجاء ضمن جواب اللجنة: دعوى مخالفة هذا الحديث للعقل الصريح دعوى باطلة؛ لبنائها على قياس الناس بعضهم على بعض في الصحة، وقوة البدن، والقدرة على الجماع، وسرعة الإنزال وبطئه، وهو قياس فاسد؛ لشهادة الواقع بتفاوتهم فيما ذكر، وفي غيره، وخاصة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بالنسبة لغيرهم، فقد أوتوا من قوة البدن، والقدرة على الجماع، مع كمال العفة، وضبط النفس، وكبح جماح الشهوة، ما لم يؤت غيرهم، فكانت العفة، وصيانة الفرج عن قضاء الوطر في الحرام، مع القدرة على الجماع، وقوة دواعيه، معجزة لهم عليهم الصلاة والسلام، وكان من السهل على أحدهم أن يطأ عشر نسوة في ساعة، ومائة امرأة في عشر ساعات، أو أقل؛ لتحقق الاختصاص بالقوة، وإمكان الإنزال في خمس دقائق، أو أقل منها، وقد ذكر ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ نحوا من هذا في شرح هذا الحديث، وبيان ما يستنبط منه، قال: وفيه ما خص به الأنبياء من القوة على الجماع، الدال ذلك على صحة البنية، وقوة الفحولية، وكمال الرجولية، مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة، والعلوم، وقد وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أبلغ المعجزة؛ لأنه مع اشتغاله بعبادة ربه، وعلومه، ومعالجة الخلق، كان متقللا من المآكل والمشارب، المقتضية لضعف البدن على كثرة الجماع، ومع ذلك؛ فكان يطوف على نسائه في ليلة، بغسل واحد، وهن إحدى عشرة امرأة، وقد تقدم في كتاب الغسل، ويقال: إن كل من اتقى الله، فشهوته أشد؛ لأن الذي لا يتقي، يتفرج بالنظر، ونحوه. اهـ.
وقال العينى في عمدة القاري: وفيه ـ يعني هذا الحديث ـ ما كان الله تعالى خص به الأنبياء من صحة البنية، وكمال الرجولية، مع ما كانوا فيه من المجاهدات في العبادة.
والعادة في مثل هذا لغيرهم الضعف عن الجماع، لكن خرق الله تعالى لهم العادة في أبدانهم، كما خرقها لهم في معجزاتهم، وأحوالهم، فحصل لسليمان عليه الصلاة والسلام من الإطاقة أن يطأ في ليلة مائة امرأة، ينزل في كل واحدة منهن ماء، وليس في الأخبار ما يحفظ فيه صريحا غير هذا، إلا ما ثبت عن سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه أعطي قوة ثلاثين رجلا في الجماع... اهـ.
وهناك وجه آخر ذكره صاحب التفسير الوسيط، فقال: قوله: لأطوفن الليلة.. كناية عن الجماع، قالوا: ولعل المقصود: طوافه عليهن ابتداء من تلك الليلة، ولا مانع من أن يستغرق طوافه بهن عدة ليال. اهـ.
والله أعلم.