الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن في حكم ثوب الخز عدة أقوال ذكرها بعض أئمة المالكية، وهو ابن رشد الجد، ورجح أنه مكروه كراهة تنزيه، جاء في شرح الخرشي على المختصر: وأما الخز، وهو ما سداه حرير، ولحمته وبر، وما في معناه من الثياب التي طعمها قطن، أو كتان، فقال ابن رشد: أظهر الأقوال وأولاها بالصواب أن لبسها مكروه، يؤجر على تركه، ولا يأثم في فعله؛ لأنه من المشتبهات المتكافئة أدلة حلها وحرمتها، التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اتقاها، فقد استبرأ لدينه، وعرضه، وعليه يأتي ما حكي عن لباس مالك كساء إبريسم، كساه إياه هارون الرشيد ـ وأول لبس المسلمين الحرير في زمن علي، وأول من لبس الخز عبد الله بن عامر بن كريز. اهـ.
قال العدوي في حاشيته: قوله: وأما الخز إلخ، قال في ك: وأما ما لحمته حرير، وسداه وبر ونحوه، فحرام، وقرره شيخنا الصغير، وفي بعض شراح الرسالة الكراهة، قوله أظهر الأقوال، اعلم أن الخز عبارة عما كان سداه من الحرير، واللحمة من الوبر فقط، وأما إذا لحم بغيره من قطن أو كتان، فلا يقال فيه؛ خز، وفي الجميع أربعة أقوال:
أولها: لبسها جائز، من قبيل المباح، من لبسها لم يأثم بلبسها، ومن تركها، لم يؤجر على تركها.
الثاني: أن لباسها غير جائز، فمن لبسها أثم، ومن تركها نجا.
الثالث: أن لباسه مكروه، فمن لبسه لم يأثم، ومن تركه أجر، وهذا هو أظهر الأقوال، وأولاها بالصواب.
الرابع: الفرق بين ثياب الخز وسائر الثياب، فيجوز لباس الخز، ولا يجوز لباس سواه، وإليه ذهب ابن حبيب، وهو أضعف الأقوال، كذا في المقدمات بحذف بعض، إذا علمت ذلك، فقول الشارح: وما في معناه ـ أي: وما في معنى الخز ـ أي: فالخز قاصر على نوع مخصوص، وهو ما كان سداه من حرير، ولحمته من وبر. اهـ.
وأما حكم لبس الثوب المشكوك فيه هل هو ثوب حرير أو ثوب خز: فلم نظفر بنص على هذه المسألة في كتب المالكية، لكن ثم قواعد فقهية يذكرها فقهاء المالكية تضبط مثل هذه المسألة، كقاعدة: أن ما يشك في تحريمه ينهى عنه، ولا يعزم في النهي ـ بمعنى أنه لا يحرم ـ جاء في القواعد للمقري: قاعدة: كل ما يشك في وجوده من الجائز، فإنه يؤمر به، ولا يعزم، كغسل قليل الدم يراه في غير الصلاة، وكل ما يشك في تحريمه، فإنه ينهى عنه ولا يعزم، كخنزير الماء، ووسيلة الشيء مثله، قال ابن بشير: منع في الكتاب دفن السقط في الدار؛ لأنه لم تثبت حرمته، ولم تسقط، فيؤدي ذلك إلى انتهاكها، أو إلى تأذي المشتري؛ إذ لا يتحقق كون موضعه حبسا، بخلاف غيره، قال: وفي كونه عيبا قولان منزلان على المنع، والجواز، والمنع على أن ما يشك في حكمه، فالأصل انتفاؤه، وهو على أن الأشياء على الحظر لا على الإباحة، وللمالكية فيه قولان. اهـ.
ومن ذلك قاعدة: أن الأصل في الشك الإلغاء، إلا لدليل، جاء في شرح المنهج المنتخب: قاعدة: المعتبر في الأسباب والبراءة وكل ما تترتب عليه الأحكام: العلم، ولما تعذر أو تعسر في أكثر ذلك، أقيم الظن مقامه لقربه؛ ولذلك سمي باسمه: فإن علمتموهن مؤمنات ـ وبقي الشك على أصل الإلغاء، إلا أن يدل دليل على ترتب حكم عليه، كالنضح، فلا عبرة بالشك في الحديث في إيجاب الوضوء، ولا يقطع استصحاب الإباحة المتقدمة، هذا مذهب الشافعي، واستحب مالك له الوضوء. اهـ.
وأما المطرز بالحرير: فهو جائز إن كان التطريز بقدر أربعة أصابع، فما دون، جاء في شرح الخرشي: أجاز الكل خط العلم والخياطة به ابن رشد. اهـ.
قال العدوي في حاشيته: قوله: خط العلم، الإضافة للبيان أي: خط هو العلم، قال ابن حبيب: ولا بأس بالعلم الحرير في الثوب، وإن عظم لم يختلف في الرخصة فيه، والصلاة به، وقيل: أربعة أصابع، وقيل: ثلاثة، وقيل: إصبعين، وقيل: إصبع، وأما السجاف، فيجوز القليل، والمراد بالقليل ما دون الثلث، والكثير الثلث فأكثر؛ لأن الثلث من حيز الكثير في غالب المسائل تقرير شيخ بعض شيوخنا الزرقاني، والفرق بينهما أن العلم أشد اتصالا بالثوب، وبعضهم قاس السجاف على خط العلم، فلذلك جزم الشيخ أحمد النفراوي بحرمة ما زاد على أربعة أصابع. اهـ.
جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: قوله: وخط العلم، أي: فلا بأس به وإن عظم، كما قال ابن حبيب، وقيل: إنه مكروه، والخلاف المذكور فيما إذا كان قدر أربعة أصابع، أو ثلاثة، أو اثنين، أو واحد، أما الخط الرقيق دون الإصبع، فجائز اتفاقا، كما أن ما زاد على الأربع أصابع، فحرام اتفاقا، وهذا كله في العلم المتصل بالثوب على وجه النسج، كالطراز الذي يكون بالثوب. اهـ.
وأما لبس ثوب الحرير وجعله دثارا بحيث لا يباشر الجسد: فلا يخرجه عن التحريم، وقد نص المالكية على حرمة الجلوس على الحرير، ولو بحائل، فكيف باللبس؟ جاء في الشرح الكبير: وعصى الرجل، وصحت صلاته، إن لبس حريرا خالصا مع وجود غيره، وأعاد بوقت ـ كما مر ـ كحرمة لبسه بغيرها على رجل، أو التحاف به، أو ركوب، أو جلوس عليه، ولو بحائل...
قال الدسوقي في حاشيته: قوله: ولو بحائل، أي: خلافا لمن أجاز الركوب، والجلوس عليه والارتفاق به، إذا كان عليه حائل، وهو موافق للحنفية. اهـ.
والله أعلم.