الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذه المسألة محل اختلاف، ونظر، واجتهاد؛ لعسر مأخذها، وتباين أحوال الناس فيها.
وقد اختلف أهل العلم فيما هو أظهر منها، وهي مسألة البسملة: متى تشرع ومتى لا تشرع؟ ومن ذلك البسملة على المحرمات!
وهذا من الفروق التي بحثها القرافي في كتابه: (أنوار البروق)، واستشكل ضابطها، وقال: وقع البحث فيه مع جماعة من الفضلاء، وعسر تحرير ذلك وضبطه ... فالقصد من هذا الفرق بيان عسره، والتنبيه على طلب البحث عن ذلك، فإن الإنسان قد يعتقد أن هذا لا إشكال فيه، فإذا نبه على الإشكال استفاده، وحثه ذلك على طلب جوابه. اهـ.
وقد فصل في ذلك الشيخ محمد بن علي بن حسين مفتى المالكية بمكة، في تهذيبه لكتاب الفروق، ومما قال في حكم التسمية على المحرم: القول بكراهتها فيه وجيه؛ فإن القاعدة: الحسنات يذهبن السيئات لا العكس، يعني الغالب قوة ناموس الحسنة على السيئة، بدليل كثرة الكفارات من الطاعات للذنوب؛ ولذا كانت الحسنة بعشر والسيئة بواحدة، وناهيك بحديث بطاقة التوحيد، حيث ترجح في الميزان على سجلات كثيرة، والبسملة حسنة؛ لأنها في ذاتها ذكر، فلا يتسلط عليها ناموس السيئة حتى تنحط لرتبة التحريم، قصارى الأمر الكراهة للمجاورة، وقد رجح الكراهة شيخنا في حاشية الكرشي في مبحث تسمية الوضوء، تبعا للشبرخيتي. اهـ.
وقد سبق لنا في الفتوى رقم: 170753 التفصيل في حكم ذكر الله أثناء المعصية، وأشرنا إلى أن فاعل ذلك على غير وجه الاستخفاف، قد لا يأثم؛ بل يرجى له من فضل الله أن يثاب على ذكره؛ فيكون من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، تكتب عليه سيئاته، كما تكتب له حسناته.
كما سبق لنا في الفتوى رقم: 338737 بيان اختلاف أهل العلم في نفع الاستغفار مع عدم الإقلاع عن الذنب! واستظهرنا أن استغفار اللسان ينفع صاحبه إن اقترن ببغض المعصية، وانزعاج القلب منها، والرغبة في الإقلاع عنها خوفا من الله تعالى، مع صدق القلب في توجهه إلى الله، وتعلقه برجاء رحمته؛ بخلاف من حرك لسانه بالاستغفار وقلبه غافل عن الله، متعلق بالمعصية حبا ورغبة وعزيمة.
وقريب من هذا: المسألة التي نحن فيها، فالاستغفار والذكر أثناء اقتراف المعاصي، يختلف حكمه بحسب حال الشخص نفسه، وما قام في قلبه من دواعي تحرك لسانه بالذكر، أو الدعاء، أو الاستغفار، فلا يستوي الغافل المستهين بالمعاصي، مع القلق من ذنبه، الخائف من ربه، الراجي لرحمته، الراغب في توفيقه للتوبة، قال ابن أبي جمرة في شرح مختصره لصحيح البخاري: إن كان هذا العاصي ذكر مولاه بخوف وخجل مما هو فيه، فيرجى له فضل المولى، مثل ما تقدم من ذكر أحد الأخوين المسرف على نفسه منهما، ولقول المولى سبحانه وتعالى: (اطلبوني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي) .. اهـ.
يعني بحديث الأخوين حديث أبي هريرة مرفوعا: كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله، لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة. فقبض أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما، أو كنت على ما في يدي قادرا؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار. رواه أبو داود، وأحمد، وصححه أحمد شاكر، والألباني، والأرنؤوط.
وكلام ابن أبي جمرة السابق نقله عنه ابن حجر في فتح الباري بمعناه، ولفظه: إن كان في حال المعصية يذكر الله بخوف ووجل مما هو فيه، فإنه يرجى له. اهـ.
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: مجرد قول القائل: اللهم اغفر لي. طلب منه للمغفرة، ودعاء بها، فيكون حكمه حكم سائر الدعاء، فإن شاء الله أجابه، وغفر لصاحبه، لا سيما إذا خرج عن قلب منكسر بالذنب .. اهـ.
وقد سئل الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي: ما حكم ذكر الله تعالى مع ارتكاب المعصية، بسبب تأنيب الضمير، كأن يفعل الذنب ويكون غير راض عن فعله، ويستغفر الله جل جلاله؟
فأجاب: أرجو أن يثاب على فعل الخير، وأن يوفق إلى ترك المنكرات. اهـ.
والله أعلم.