الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالأشياء كلها -سواء عند العامة، أم عند المناطقة- لا يخرج وجودها خارج الذهن عن ثلاثة أقسام: فإما أن يستحيل وجودها، أو يستحيل عدمها، أو لا يستحيل لا وجودها ولا عدمها.
فالأول هو الممتنع الوجود، والثاني هو الواجب الوجود، والثالث هو الممكن الوجود.
والقدرة من حيث هي، إنما تتعلق بالممكن، لا بالواجب ولا بالممتنع؛ لأن الوجود والعدم فيهما تقتضيه ذاتهما، وعلى هذا دار تعريف أهل العلم للأقسام الثلاثة، كما قال السيوطي في (معجم مقاليد العلوم في الحدود والرسوم):
- الواجب: ما اقتضت ذاته وجوده في الخارج.
- الممتنع: ما اقتضت ذاته عدم وجوده في الخارج.
- الممكن: ما لم تقتض ذاته في الخارج وجودا ولا عدما. اهـ.
وقال ابن حزم في (التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية): اعلم أن عناصر الأشياء كلها، أي: أقسامها، في الإخبار عنها، ثلاثة أقسام لا رابع لها:
إما: واجب وهو الذي قد وجب وظهر، أو ما يكون مما لا بد من كونه، كطلوع الشمس كل صباح، وما أشبه ذلك. وهذا يسمى في الشرائع: "الفرض واللازم".
وإما ممكن، وهو: الذي قد يكون وقد لا يكون، وذلك مثل توقعنا أن تمطر غدا، وما أشبه ذلك، وهذا يسمى في الشرع: "الحلال والمباح".
وإما ممتنع، وهو: الذي لا سبيل إليه، كبقاء الإنسان تحت الماء يوما كاملا .. وهذه التي إذا ظهرت من إنسان علمنا أنه نبي. وهذا القسم يسمى في الشرائع: "الحرام والمحظور". اهـ.
وقال الكفوي في (الكليات) في تعريف الشيئية الثبوتية: هي ثبوت المعلومات في علم الله، متميزا بعضها عن بعض، وهي على أقسام:
ـ أحدها: ما يجب وجوده في العين، كذات الواجب سبحانه.
ـ وثانيها: ما يمكن بروزه من العلم إلى العين، وهو الممكنات.
ـ وثالثها: ما لا يمكن، وهو الممتنعات.
ومتعلق إرادته وقدرته هو القسم الثاني، دون الأول، والثالث، ومن هنا يقال: مقدورات الله أقل من معلوماته؛ لشمول العلم الممتنعات، مع عدم تناهي المقدورات وانقطاعها ... ولا يلزم من القول بتعلق القدرة على كل الممكنات، وجوب وجود جميعها؛ لأن تعلقها غير كاف في الوجود، بل يجب تعلق الإرادة حتى يوجد الممكن بالقدرة ... وإنما لم يتعلقا بالقسم الأول، والثالث؛ لأنهما لما كانتا صفتين مؤثرتين، ومن لازم الأثر أن يكون موجودا بعد عدم، لزم أن ما لا يقبل العدم أصلا، كالواجب، لا يقبل أن يكون أثرا لهما، وإلا لزم تحصيل الحاصل. وما لا يقبل الوجود أصلا، كالمستحيل، لا يقبل أيضا أن يكون أثرا لها، وإلا لزم قلب الحقائق برجوع المستحيل عين الجائز، فلا قصور فيهما، كما لا نقص بعدم تعلق الرؤيا بالمعدومات، والسمع بالألوان ... ثم الممتنع إما ممتنع الكون لنفسه في علم الله تعالى، كاجتماع الضدين، وكون الشيء الواحد في آن واحد في مكانين، ونحوه. وإما ممتنع الكون لا باعتبار ذاته، بل باعتبار تعلق العلم بأنه لا يوجد، أو غير ذلك، كوجود عالم آخر وراء هذا العالم أو قبله، فما كان من القسم الأول فهو لا محالة غير مقدور، من غير خلاف، وما كان من القسم الثاني، فنقول فيه: إن الممكن من حيث هو ممكن، لا ينبو عن تعلق القدرة به، والقدرة من حيث هي قدرة، لا يستحيل تعلقها بما هو في ذاته ممكن إذا قطع النظر عن غيره، ولا معنى لكونه مقدورا غير هذا، وإطلاق اسم المقدور عليه بالنظر إلى العرف، وإلى الوضع باعتبار هذا المعنى، غير مستبعد، وإن كان وجوده ممتنعا باعتبار غيره. اهـ.
وبهذا يتضح للسائل صحة فهمه، حينما قرب الممتنع بأنه: (الذي لا يدخل تحت القدرة، كالجمع بين النقيضين).
قال الغزالي في (معيار العلم في فن المنطق): الممتنع أيضا منقسم إلى: ممتنع لذاته، وإلى ممتنع لغيره. فاجتماع السواد والبياض ممتنع لذاته، وكون السلب والإثبات في شيء واحد صادقا، ممتنعا لذاته. وفرض القيامة اليوم، وقد علم الله تعالى أنه لا يقيمها اليوم: مستحيل، ولكن لا لذاته، كاستحالة الجمع بين البياض والسواد، ولكن لسبق علم الله بأنه لا يكون، واستحالة كون العلم جهلا، فكان امتناعه لغيره لا لذاته. اهـ.
وأما السؤال الثاني، فجوابه أن الذي دعا شيخ الإسلام ابن تيمية للكلام على طريقة المتكلمين والفلاسفة: هو ما كان سائدا في عصره من طغيان هذه العلوم وأصحابها، واستعلائهم على غيرهم بها، وظنهم بسببها أن طريقتهم أعلم وأحكم من طريقة السلف! فانبرى لهم شيخ الإسلام -رحمه الله رحمة واسعة- فبين فساد طريقتهم في ذاتها، وعدم دلالتها على المطلوب، وأن طريقة السلف كما هي أسلم، فهي كذلك أعلم وأحكم، وأنها لا تعارض الصواب مما جاءت به هذه العلوم -وهو قليل- ولكنها عارضت الأغلاط الكثيرة فيها.
فاستعمل -رحمه الله- اصطلاحاتهم وطريقتهم، فأتى في ذلك بعجائب، عجز عنها أقرانه، وأبهرهم بعمق فهمه لطرائقهم، وحسن استعماله لها، ومتانة نقضه، وقوة رده عليها، ولا سيما في إثبات تعارضها فيما بينها، وبيان لوازمها الخاطئة سلبا وإيجابا.
ومن هذا الباب: العبارات التي نقلها السائل، فقد جاءت في معرض الرد على الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، ممن اعتقدوا أن الرب تعالى في الأزل كان يمتنع منه الفعل والكلام بمشيئته وقدرته، وأن حقيقة قولهم: إنه لم يكن قادرا في الأزل على الكلام والفعل بمشيئته وقدرته؛ لكون ذلك ممتنعا لنفسه، والممتنع لا يدخل تحت المقدور!
ولفساد هذا القول وبطلانه ظهر عليه قول الفلاسفة الملحدين القائلين بقدم العالم! فرد شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- على الطائفتين جميعا، وفرق بين إثبات حوادث لا أول لنوعها -وبين إثبات حوادث لا أول لأعيانها- فالأول حق، ولكنه لا يستلزم قول الفلاسفة بقدم العالم، وأما الثاني فباطل قطعا.
وقد جاء كلامه المنقول في معرض الرد على المتكلمين من الجهمية، والمعتزلة، وغيرهم، وبيان النتائج التي أدى إليها امتناعهم عن القول بحوادث لا أول لنوعها، وراجع في هذه المسألة الفتويين: 190011، 297787.
والمقصود أن شيخ الإسلام إنما لجأ لطرائق الفلاسفة والمتكلمين ليرد عليها وينقضها، وأما موقفه هو من هذه الطرائق المحدثة، فمعروف، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 158981.
والله أعلم.