الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

جواب استشكالات حول تعدد القديم وواجب الوجود وتعدد واجب الوجود

السؤال

سؤالي طويل لكن والله أنا لا أسألكم لإزعاجكم أو تعطيلكم، ويعلم الله كم استفدت من علمكم وأجوبتكم، وإني لا ألجأ لغيركم ولا أثق إلا بكم، فلا تبخلوا علي بعلمكم، وأستحلفكم بالله أن تجاوبوني وأنتم تعرفون حق من استحلف بالله فبالله عليكم جاوبوني إجابة مفصلة، ولا تتركوا سؤالي لطوله، سؤالي: إنه استشكل شيء علي في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في نصين في درء تعارض النقل مع العقل الأول في الجزء الثالث صفحة 18 (المكتبة الشاملة) قال رحمه الله (الواجب بذاته يراد به الذات الواجبة بنفسها، المبدعة لكل ما سواها، وهذا واحد.
ويراد به: الموجود بنفسه الذي لا يقبل العدم.
وعلى هذا: فالذات واجبة، والصفات واجبة، ولا محذور في تعداد الواجب بهذا التفسير، كما لا محذور في تعدد القديم إذا أريد به ما لا أول لوجوده.
وسواء كان ذاتاً أو صفة لذات القديم، بخلاف ما إذا أريد بالقديم الذات الخالقة لكل شيء، فهذا واحد لا إله إلا هو) المشكل كيف يقول لا محذور في تعدد القديم إذا أريد به ما لا أول لوجوده سواء كان ذاتا الاستشكال أنه كيف يتعدد القديم باعتبار الذات أيمكن أن يوجد ذوات قديمة، ما أعرفه عن شيخ الإسلام أن هذا ممتنع لذاته، أما إذا كان التعدد مقصود به ذات واحدة قديمة وصفات قديمة متعددة فلا محذور في تعدد القديم بهذا المقصود، هذا الاستشكال الأول، الثاني: أنه قال في درء التعارض أيضا الجزء الرابع صفحة 252 (المكتبة الشاملة) في معرض الرد على أحدهم قال الآتي: (وأيضاً فما ذكره في إبطال هذه الحجة يبطل الوجه الأول أيضاً، فإنه إذا لم يمتنع واجبان بأنفسهما فإن لا يمتنع جزءان كل منهما واجب بنفسه بطريق الأولى والأحرى) الإشكال كيف يقول: فإنه إذا لم يمتنع واجبان بأنفسهما مع أني ما أعرفه عنه أن هذا ممتنع لذاته عنده سيما أني قرأت كلام المردود عليه فلم أجد أنه يقول إن وجود واجبين بأنفسهما غير ممتنع فكيف يقول ابن تيمية هذا؟ أريد توضيح الإشكال، وأرجو مراجعة النصين لإفادة السياق، وأريد إجابة واضحة على سؤالين مرتبطين بسؤالي هذا، هل يقول شيخ الإسلام إن وجود واجبين قديمين ممتنع لذاته أم لا؟ آخر نقطة في السؤال إن هناك أخا على موقع ألوكة قال كلاماً مثيرا للاهتمام، قال وجود واجبين قديمين ممتنع، لكن هب أن وجود واجبين قديمين ممكن فإنه سيبقى الله وحده هو الواجب القديم؛ لأنه حتى لو كان تعدد واجب الوجود ووجود واجبين أو أكثر غير ممتنع وممكن، فإنه لن يوجد واجب آخر مع الله؛ لأنه ليس هناك ذات واجبة غير ذاته ذات الله فقط هي الواجبة، فإنه لو أمكن عقلا وجود واجبين فلن يوجد إلا واجب واحد وهو الله؛ لأن ذاته فقط هي الواجبة، فهل كلامه صحيح؟ أود الرد على كل سؤالي وهو عبارة عن استشكالين وسؤالين.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالعبارات المجملة، المحتملة لعدة معان، لا يستقيم فهم المراد منها إلا بعد بيانها، وكذلك الاصطلاح لا يمكن حمله على المراد به إلا بعد تعريفه وبيان حده، ومن ذلك لفظ (القديم) فإنه:

ـ قد يراد به: قدم أنواع الحوادث، لا قدم أعيانها، فالحوادث لا أول لنوعها، وليس شيء منها بعينه قديما، ولا مجموعها قديم، وإنما القدم باعتبار النوع، ولا مانع من تعدد القدماء بهذا الاعتبار، ولا يستلزم ذلك القول بسرمدية الكون أو بقدم العالم، بمعنى أنه وجد بلا خالق، أو أن أفراده غير مسبوقة بالعدم!! بل كل فرد منها مسبوق بالعدم، وبالخالق الذي خلقه، وقد سبق لنا بسط القول في هذه المسألة، في الفتوى رقم: 190011.

ـ وقد يراد به ما لا فاعل ولا مبدع له، فيدخل في ذلك كل من صفات الله تعالى وذاته سبحانه، ولذلك يقال: لا يمتنع تعدد القدماء بهذا الاعتبار، فكما أن ذات الله تعالى ليست مخلوقة وليس لها ابتداء، فكذلك صفاته عز وجل.

وعلى هذين المعنيين يحمل قول شيخ الإسلام: "لا محذور في تعدد القديم إذا أريد به ما لا أول لوجوده، وسواء كان ذاتاً أو صفه لذات القديم". ـ وقد يراد بالقديم: القائم بنفسه المبدع لغيره، وهذا هو الذي يمتنع تعدده، وهو ذات الله تعالى المتصفة بصفات الكمال والجلال.

وقد أوضح هذا شيخ الإسلام في موضع آخر من الكتاب نفسه فقال في جواب نحو هذا الإشكال: يقال: ما تعني بواجب الوجود؟ أتعني به ما لا فاعل له، أو تعني به القائم بنفسه الذي لا فاعل له؟ فإن عنيت الأول لم يمتنع أن يكون كل من الصفات والذات واجب الوجود بهذا التفسير، ولم يدل على امتناع تعدد الواجب بهذا التفسير دليل، كما لم يدل على امتناع تعدد القديم بهذا التفسير دليل، وإنما دل الدليل على أنه لا إله إلا الله، وأن الله رب العالمين واحد لا شريك له، وهو التوحيد الذي دل عليه الشرع والعقل، فأما نفي الصفات وتسمية ذلك توحيداً فهو مخالف للشرع والعقل، وإن أراد بواجب الوجود: القائم بنفسه الذي لا فاعل له، كانت الذات واجبة الوجود، وهي بالصفة واجبة الوجود ولم تكن الصفة وحدها واجبة الوجود... اهـ.
ولمزيد البيان نلفت نظر السائل إلى أن ابن تيمية ـ رحمه الله ـ كان يرد بهذا الكلام على الرازي واستدلاله بنفي التركيب وعلة الافتقار أو الحدوث والإمكان ـ على حدوث العالم، ثم اتخاذ ذلك ذريعة لنفي صفات الله تعالى بزعم أن إثباتها يستلزم التركيب! مع أن الرازي نفسه يثبت أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يكون قديماً يعني ليس بحادث!! وفي ذلك يقول شيخ الإسلام: نحن نقرر أن كل ما سوى الواجب فهو محدث، وأن التأثير لا يكون إلا في حادث، وأن الحدوث والإمكان متلازمان، وهو قول جمهور العقلاء من أهل الملل والفلاسفة، وإنما أثبت ممكناً ليس بحادث طائفة من متأخري الفلاسفة كابن سينا والرازي فلزمهم إشكالات لا محيص عنها، مع أنهم في كتبهم المنطقية يوافقون أرسطو وسلفهم ـ وهو أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثاً، وقد أنكر ابن رشد قولهم بأن الشيء الممكن الذي يقبل الوجود والعدم يكون قديماً أزلياً، وقال: "لم يقل بهذا أحد من الفلاسفة قبل ابن سينا" قلت: وابن سينا ذكر في الشفاء في مواضع أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثاً، فتناقض في ذلك تناقضاً في غير هذا الموضع، وقد أورد هو ـ يعني الرازي ـ على هذه الحجة معارضة مركبة، تستلزم فساد إحدى المقدمتين، وهي المعارضة بكونه تعالى عالماً بالعلم قادراً بالقدرة، فإن علمه إن كان واجباً لذاته، وذاته واجبة أيضاً، فقد وجد واجبان، وبطلت المقدمة الأولى، وإن كان ممكناً كان واجباً بغيره لوجوب ذاته، ولزم كون الأثر والمؤثر دائمين وبطلت المقدمة الثانية، ولم يجب عن هذه المعارضة، بل قال: "وأما الجواب عن كونه عالماً بالعلم قادراً بالقدرة فصعب!".
ثم بيَّن شيخ الإسلام ما في ذلك من الفساد. وقال بعد ذلك: كل ما سوى الله ممكن، وكل ممكن فهو مفتقر إلى المؤثر، لأن المؤثر لا يؤثر إلا في حال حدوثه، لكن يقرر ذلك بمقدمات لم يذكرها الرازي... وأما الجواب عن المعارضة بكون الرب عالماً قادراً، فجوابه: أن الواجب بذاته يراد به الذات الواجبة بنفسها المبدعة لكل ما سواها، وهذا واحد، ويراد به: الموجود بنفسه الذي لا يقبل العدم، وعلى هذا: فالذات واجبة، والصفات واجبة، ولا محذور في تعداد الواجب بهذا التفسير، كما لا محذور في تعدد القديم إذا أريد به ما لا أول لوجوده، وسواء كان ذاتاً أو صفه لذات القديم، بخلاف ما إذا أريد بالقديم الخالق لكل شيء، فهذا واحد لا إله إلا هو، وقد يراد بالواجب الموجود بنفسه القائم بنفسه، وعلى هذا: فالذات واجبة دون الصفات. اهـ.

وفي ذلك جواب للإشكال الثاني أيضا، فالواجب الذي لا يمتنع تعدده هو: ما لا فاعل ولا مبدع له، أو ما ليس لأوليته ابتداء، كصفات الله تعالى، وأما الواجب الذي يمتنع تعدده فهو الواجب بمعنى القائم بنفسه المبدع لغيره، كذات الله تعالى، وهي لا تنفك عن صفات كماله عز وجل، وهذا لا يصح أن يقال فيه: (حتى لو كان تعدد واجب الوجود، ووجود واجبين أو أكثر ـ ممكن وغير ممتنع، فإنه لن يوجد واجب آخر مع الله)، فإن ذلك لا يستقيم؛ لأن تعدد الواجب بالمعنى الثاني ممتنع عقلا قبل أن يمتنع شرعا، فلا يفترض وقوعه إلا لبيان بطلانه ببطلان لازمه وفساده، وهو ما يعرف عند المنطقيين بدليل التمانع، كقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ {الأنبياء:22}، وراجعي في ذلك الفتوى رقم: 129287.

ولمزيد البيان ننبه السائل على أن شيخ الإسلام كان يرد بموضع الإشكال الثاني على الآمدي في إبطال التركيب، الذي يتوصل به المتكلمون إلى نفي صفات الله تعالى، كما ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام في (مجموع الفتاوى) فقال: يقولون: إن الرب واحد، والواحد لا يصدر عنه إلا واحد، ويعنون بكونه واحدا أنه ليس له صفة ثبوتية أصلا، ولا يعقل فيه معان متعددة؛ لأن ذلك عندهم تركيب! ولهذا يقولون: لا يكون فاعلا وقابلا لأن جهة الفعل غير جهة القبول، وذلك يستلزم تعدد الصفة المستلزم للتركيب. اهـ.
وقد فند شيخ الإسلام هذه الشبهة (شبهة التركيب) وما يدور في فلكها في كتابه الفذ: (العقيدة التدمرية) أو (تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع) وقد قام الشيخ ابن عثيمين بتهذيب هذا الكتاب واختصاره بأسلوب واضح سهل في (تقريب التدمرية).

وأخيرا ننبه الأخت السائلة على أن مثل هذه المسائل من المشكلات التي تحار فيها العقول، فينبغي أن لا ننشغل بها أو ندقق فيها في أول طلبنا للعلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ذكر ما يتعلق بهذا الباب من الكلام في سائر الصفات: كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر، والكلام في تعدد الصفة واتحادها، وقدمها وحدوثها، أو قدم النوع دون الأعيان، أو إثبات صفة كلية عمومية متناولة الأعيان مع تجدد كل معين من الأعيان، أو غير ذلك مما قيل في هذا الباب، فإن هذه مواضع مشكلة، وهي من محارات العقول؛ ولهذا اضطرب فيها طوائف من أذكياء الناس ونظارهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. اهـ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني