السؤال
قرأت في أحد الأبحاث الفقهية عن المائعات وأحكام ملاقتها للنجاسات ما نصه:
الوجه الثاني : أن يقال: غاية هذا أنه يقتضي أن يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وأحمد جعله لازما لمن قال: إن المائع لا ينجس بملاقاة النجاسة؛ وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، كما ذكروه في الماء، فيلزم جواز إزالة النجاسات بكل مائع، طاهر مزيل للعين قلاع؛ للأثر على هذا القول. وهذا هو القياس، فنقول به على هذا التقدير، وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره؛ لكون الإحالة أقوى من الإزالة، فيلزم من قال: إنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات أن تكون المائعات كالماء، فإذا كان الصحيح في الماء: أنه لا ينجس إلا بالتغير إما مطلقا، وإما مع الكثرة، فكذلك الصواب في المائعات.
وفي الجملة التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات، وفي مسألة ملاقاتها للمائعات: الماء وغير الماء.
ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها، والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية - تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال، فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص، والأقيسة.
وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول، وموجب القياس، ومن كان فقيها خبيرا بمأخذ الأحكام الشرعية، وأزال عنه الهوى تبين له ذلك، ولكن إذا كان في استعمالها فساد، فإنه ينهى عن ذلك، كما كان ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرث عليها، ونحو ذلك؛ لما في ذلك من الحاجة إليها، لا لأجل الخبث.
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في بعض أسفاره مع الصحابة، فنفدت أزوادهم، فاستأذنوه في نحر ظهورهم، فأذن لهم، ثم أتى عمر -رضي الله عنه- فسأله أن يجمع الأزواد، فيدعو الله بالبركة فيها، ويبقي الظهر، ففعل ذلك.
فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب، لا لأن الإبل محرمة؛ فلهذا ينهى عما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها، كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن، وعلف دواب الإنس والجن، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها، بل لحرمتها، فالقول في المائعات كالقول في الجامدات.
(الوجه الثالث): أن يقال: إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء، وتغير الماء بالنجاسات أسرع من تغير المائعات، فإذا كان الماء لا ينجس بما يقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته، فالمائعات أولى وأحرى.
وسؤالي هو: بما أنني موسوس في أمور الاستنجاء، فأنا أتركه معتبرا أن الأثر اليسير معفو عنه، وإنما أقع في حرج عند اختلاط المني به، فهل اختلاط المني مع ما يعفى عنه من النجاسة -كنقطة بول تركت على المخرج، أو مذي، أو غيرهما- ينجسه، حتى لو لم يتغير المني بذلك؟ ألا يستقيم قياس ذلك على من يقول: إن الماء القليل لا يتنجس إلا بالتغير؟ وإن كان القياس ممكنا -والحال هذه- فهل إنزال المني لمن به أثر بول على المحل لا يلتفت فيه لحالة المني من تغير، حيث إن الأصل طهارة غسالة الماء المنفصل عن النجاسة حتى يتيقن تغيره، ويقاس عليه حال المني هنا، فما مدى صحة ذلك؟