السؤال
تكلم الله تبارك وتعالى عن نفسه بصيغة الجمع للتعظيم في بعض آيات القرآن الكريم، فهل لنا التحدث عنه بتلك الصيغة؟ وهل لنا مناجاته على ذلك النحو؟ وإن كان جائزا، فما حدود ذلك؟ وما ضوابطه؟
تكلم الله تبارك وتعالى عن نفسه بصيغة الجمع للتعظيم في بعض آيات القرآن الكريم، فهل لنا التحدث عنه بتلك الصيغة؟ وهل لنا مناجاته على ذلك النحو؟ وإن كان جائزا، فما حدود ذلك؟ وما ضوابطه؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن جمع الداعي ضمير الخطاب مما اختلف فيه؛ فأجازه البعض، ومنعه آخرون.
وممن منعه: السهيلي، حيث قال في (الروض الأنف): لا يجوز لعبد أن يقول: رب اغفروا، ولا ارحموني، ولا عليكم توكلت، ولا إليكم أنبت، ولا قالها نبي قط في مناجاته، ولا نبي في دعائه؛ لوجهين:
أحدهما: أنه واجب على العبد أن يشعر قلبه بالتوحيد؛ حتى يشاكل لفظه عقده.
الثاني: ما قدمناه من سير هذا المجاز، وأن سببه صدور الكلام عن حضرة الملك؛ موافقة للعرب في هذا الأسلوب من كلامها، واختصاصها بعادة ملوكها، وأشرافها. ولا ننظر لقول من قال في هذه المسألة، وبذلك روجعوا، يعني: بلفظ الجمع، واحتج بقوله سبحانه خبرا عمن حضره الموت من الكفار إذ يقول: (رب ارجعون) [المؤمنون:99]، فيقال له: هذا خبر عمن حضرته الشياطين، ألا ترى قبله: (وأعوذ بك رب أن يحضرون) [المؤمنون:98]، فلما جاء هذا حكاية عمن حضرته الشياطين، وحضرته زبانية العذاب، وجرى على لسانه في الموت ما كان يعتاده في الحياة من رد الأمر إلى المخلوقين؛ فلذلك خلط، فقال: رب، ثم قال: ارجعون، وإلا فأنت أيها الرجل المجيز لهذا الفظ في مخاطبة الرب سبحانه هل قلت قط في دعائك: ارحموني يا رب، وارزقون؟ بل لو سمعت غيرك يقولها لسطوت به. اهـ.
ونقل السمين عن ابن مالك كما في (اللباب في علوم الكتاب) قوله: إنه لم يعلم أحدا أجاز للداعي أن يقول: ارحمون؛ لئلا يوهم خلاف التوحيد. انتهى.
لكن رد عليه الألوسي في روح المعاني فقال -رحمه الله تعالى-: والحق أن التعظيم يكون في ضمير المتكلم، والمخاطب، بل والغائب، والاسم الظاهر، وإنكار ذلك غير رضي، والإيهام الذي يدعيه ابن مالك هنا لا يلتفت إليه. انتهى.
وممن رأى جواز الخطاب بصيغة الجمع ابن عاشور إذ قال -رحمه الله تعالى- في التحرير والتنوير: وضمير الجمع في: ارجعون، تعظيم للمخاطب. والخطاب بصيغة الجمع لقصد التعظيم، طريقة عربية، وهو يلزم صيغة التذكير، فيقال في خطاب المرأة إذا قصد تعظيمها: أنتم. ولا يقال: أنتن. انتهى.
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في أضواء البيان عند تفسيره لقوله تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون {المؤمنون:99}: وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف: وهو أن يقال: ما وجه صيغة الجمع في قوله: {رب ارجعون}، ولم يقل: رب ارجعني بالإفراد ... يجاب عنه من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو أظهرها: أن صيغة الجمع في قوله: ارجعون؛ لتعظيم المخاطب، وذلك النادم السائل الرجعة يظهر في ذلك الوقت تعظيمه ربه، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر حسان بن ثابت، أو غيره:
ألا فارحموني يا إله محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل.
وقول الآخر يخاطب امرأة:
وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا.
والنقاخ: الماء البارد، والبرد: النوم، وقيل: ضد الحر. والأول أظهر. انتهى.
والذي يظهر أنه يجوز مناجاة الله تعالى بصيغة الجمع، ما دام أن الداعي يقصد تعظيم الخالق جل وعلا، والتأدب معه سبحانه وتعالى.
ومع ذلك؛ فتركه أولى؛ إذ لم يؤثر فيما نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين-.
والله أعلم.