السؤال
هناك حديث لا أعلم نصه، مفاده: أن المؤمن الصالح في قبره، أو في يوم القيامة يأتيه القرآن الكريم على هيئة رجل، يقول له: أنا القرآن. فكيف يأتي القرآن على هيئة رجل، والقرآن كلام الله غير مخلوق، والله لم أفهم ما معنى ذلك. أرجو التوضيح، وشكرا.
هناك حديث لا أعلم نصه، مفاده: أن المؤمن الصالح في قبره، أو في يوم القيامة يأتيه القرآن الكريم على هيئة رجل، يقول له: أنا القرآن. فكيف يأتي القرآن على هيئة رجل، والقرآن كلام الله غير مخلوق، والله لم أفهم ما معنى ذلك. أرجو التوضيح، وشكرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلعل الحديث الذي أشرت إليه هو ما رواه أحمد وابن ماجه عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب، فيقول لصاحبه: أنا الذي أسهرت ليلك، وأظمأت هواجرك. والحديث ضعفه الألباني، وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن في المتابعات والشواهد.
وقريب منه ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرؤوا البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة.
وروى ابن حبان في صحيحه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقال له: اقرأ وارق، وتزاد بكل آية حسنة. رواه الترمذي، وحسنه وابن خزيمة، والحاكم وقال: صحيح الإسناد.
والمراد من هذه النصوص كلها وما في معناها أن ثواب القرآن يمثله الله بهذه الصورة، فالمتمثل الشافع الطالب الخير لصاحبه المجادل عنه هو ثواب قراءته، لا نفس القرآن الذي هو صفة الرب تعالى، ومن ثم قال النووي: قوله -صلى الله عليه وسلم- فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، قال أهل اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه من سحابة وغبرة وغيرهما، قال العلماء: المراد أن ثوابهما يأتي كغمامتين. انتهى
وقال التوربشتي: (يأتيان يوم القيامة) أي يأتي ثوابهما الذي يستحقه التالي لهما العامل بهما، على ذلك فسره علماء السلف. انتهى
وقال المناوي: (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة) أي في النشأة الآخرة (شفيعا لأصحابه) أي لقارئيه بأن يتمثل بصورة يراه الناس، كما يجعل الله لأعمال العباد صورة ووزنا لتوضع في الميزان، والله على كل شيء قدير. انتهى، فعلم بهذا أن المتمثل هو ثواب القراءة وعمل العبد، لا صفة الرب تعالى.
وتكلم شيخ الإسلام ابن تيمية على مثل هذه النصوص، وفي ضمنها الحديث الذي أشرت إليه فقال في نقده لتأسيس الرازي ما عبارته: يقال هذه الحجة والجواب عنها مذكور فيما حفظ من مناظرة أحمد للجهمية من المعتزلة وغيرهم لما حبس وامتحن، وهو أيضا مذكور فيما خرجه في الرد على الجهمية فقال فيما خرجه وقد ذكره الخلال عنه في كتاب السنة باب ما ادعت الجهمية أن القرآن مخلوق من الأحاديث التي رويت أن القرآن يجيء في صورة الشاب الشاحب فيأتي صاحبه فيقول هل تعرفني فيقول له من أنت فيقول أنا القرآن الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك، قال فيأتي الله به فيقول يا رب. فادعوا أن القرآن مخلوق من هذه الأحاديث. فقلنا لهم: إن القرآن لا يجيء، إنه قد جاء: من قرأ قل هو الله أحد فله كذا وكذا. ألا ترون أن من قرأ قل هو الله أحد لا تجيئه، يجيء ثوابه؛ لأنا نقرأ القرآن، ويجيء ثواب القرآن، فيقول يا رب. كلام الله لا يجيء، ولا يتغير من حال إلى حال. وأما كلامه في المناظرة فروى الخلال في كتاب السنة أخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم أن أبا عبد الله قال احتجوا علي يومئذ فقالوا تجيء البقرة يوم القيامة، وتجيء تبارك، وقلت لهم إن هذا الثواب... وهذا نظير ما روي عن مجيء سائر الأعمال الصالحة في الصور الحسنة، ومثل ما في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور الذي رواه أحمد من حديثه.. ثم ساق حديث البراء الطويل وفيه مجيء العمل الصالح لصاحبه في صورة شاب حسن الوجه، والعمل السيء في صورة رجل قبيح الوجه ثم قال الشيخ: وكذلك ما جاء في الكتاب والسنة من حمل الأعمال ووزنها؛ كقوله تعالى: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون (31) [الأنعام 31] وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم. وفي السنن لأبي داود وغيره عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من شيء يوضع في الميزان يوم القيامة أثقل من خلق حسن، والمعنى الظاهر الذي يظهر للمخاطب من قوله يجيء عمله في صورة رجل أن الله تعالى يخلق من عمله صورة يصورها، ليس المعنى الظاهر أن نفس أقواله وأفعاله على صورة رجل، فإن هذا لا يظهر من هذا الخطاب ولا يفهمه أحد منه، وعلى هذا فلا يكون هذا الخطاب مصروفا عن ظاهره، ولكن أزيل عنه المعنى الفاسد الذي يتأوله عليه المبتدع حيث جعل نفس كلام الله الذي تكلم به هو الصورة المصورة، كما جعلوا نفس المسيح ابن مريم هو كلمة الله التي تكلم بها، وإنما المسيح تكون بكلمة الله، فسمي كلمة الله لذلك، وليس ظاهر الخطاب أن نفس كلام الله هو نفس جسد المسيح، فالمفعول بالكلمة والمفعول مما يقرؤه الإنسان ويعمله من الصالحات يسمى باسمها، فلو قيل إن في هذا نوعا من التوسع والتجوز حيث سمي ما يكون عن العمل باسم العمل لكان هذا سائغا، لكن ذلك لا يمنع أن يكون ذلك هو المعنى الظاهر كما تقدم نظيره هذا، مع أن الناس قد تنازعوا في نفس الأعراض من العمال وغيرها هل يجوز قلبها أجساما قائمة بأنفسها، وذكر النزاع في ذلك أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات. انتهى محل الغرض من كلام الشيخ رحمه الله.
والله أعلم.