الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمذهب الحنابلة أن من رشد بعد البلوغ، ثم عاوده السفه، فلا يحجر عليه إلا الحاكم، بخلاف من بلغ سفيها، فإن الحجر يستمر عليه، ويكون وليه حينئذ وليه قبل البلوغ.
جاء كشاف القناع عن متن الإقناع: ومن بلغ سفيها واستمر (أو) بلغ (مجنونا فالنظر) في ماله (لوليه قبله) أي قبل البلوغ: من أب أو وصيه، أو الحاكم لما تقدم.
(وإن فك عنه الحجر) بأن بلغ عاقلا رشيدا (فعاوده السفه) أعيد الحجر عليه (أو جن) بعد بلوغه ورشده (أعيد الحجر عليه) لأن الحكم يدور مع علته (فإن فسق السفيه ولم يبذر، لم يحجر عليه) خصوصا على القول بأن الرشد إصلاح المال فقط.
(ولا يحجر عليهما) أي على من سفه أو جن بعد بلوغه ورشده إلا حاكم (لأن التبذير الذي هو سبب الحجر عليه ثابتا يختلف) فاحتاج إلى الاجتهاد، وما احتاج إلى الاجتهاد لم يثبت إلا بحكم الحاكم كالحجر على المفلس. اهـ.
وهذا مذهب الجمهور أيضا.
جاء في الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور الزحيلي: الحجر على السفيه:
قد يبلغ الشخص سفيها، وقد يطرأ عليه السفه بعد بلوغه راشدا.
أـ من بلغ سفيها: اتفق الفقهاء على أن الصبي إذا بلغ سفيها، يمنع عنه ماله، ويظل تحت ولاية وليه.
وقال أبو حنيفة: تنتهي فترة منع ماله عنه ببلوغه خمسا وعشرين سنة؛ لأن هذه السن غالبا يتحقق فيها الرشد، فإن لم يرشد لا ينتظر منه رشد بعدئذ.
ب ـ من بلغ رشيدا ثم صار سفيها: لا يجيز أبو حنيفة الحجر عليه؛ لأنه حر في تصرفاته، والحجر ينافي الحرية، وفيه إهدار لإنسانيته وكرامته.
وقال جمهور الفقهاء، والصاحبان (أبو يوسف ومحمد) وبرأيهما يفتى في المذهب الحنفي: يجوز الحجر على السفيه، رعاية لمصلحته، ومحافظة على ماله، حتى لا يكون عالة على غيره. ويكون حكمه حينئذ حكم الصبي المميز في التصرفات؛ لقوله تعالى: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} [النساء:5/ 4]، وقوله سبحانه: {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا، أو لا يستطيع أن يمل هو، فليملل وليه بالعدل} [البقرة:282/ 2]. مما يدل على ثبوت الولاية على السفيه.
إلا أن الحجر على السفيه في هذه الحالة يكون بحكم قضائي، بالتثبت من السفه أو التبذير، ومنعا من إلحاق الضرر بمن يتعامل مع السفيه من غير بينة وتحقق من حاله. وهذا رأي أبي يوسف والشافعي وأحمد ومالك رحمهم الله تعالى.اهـ.
لكن لم نقف على نص في كتب الحنابلة في خصوص جهل حال السفيه البالغ: هل بلغ سفيها أم سفه بعد بلوغه.
وعلى كل حال: فإن القاعدة العامة أن تعاملات المسلمين وعقودهم محمولة على الصحة والسلامة مما يفسدها، إلا إن تبين خلاف ذلك.
قال ابن تيمية: الأصل في عقود المسلمين الصحة. اهـ. من مجموع فتاواه.
وفي المنثور للزركشي: العقود الجارية بين المسلمين، محمولة على الصحة ظاهرا إلى أن يتبين خلافه. اهـ.
وقال ابن سعدي: ومن أحكامه الكلية صلى الله عليه وسلم، أن الأصل في عقود المسلمين الصحة والسلامة حتى نعرف أنه جرى ما يفسدها. اهـ. من تيسير اللطيف المنان.
فلا يلزم البحث في حاله قبل البلوغ، والشك في بلوغه سفيها لا يوجب التوقف في معاملته، ثم إن رأيك في تصرفات الرجل وحكمك عليه بأنه سفيه، لا يقتضي أبدا أنه سفيه في حقيقة الأمر شرعا، ومستحق للحجر عليه! وكل من لم يعلم الحجر عليه بعد بلوغه، فعقوده صحيحة.
جاء في حاشية البجيرمي على الخطيب -من كتب الشافعية-: فرع: سئل الشهاب الرملي هل الأصل في الناس الرشد أو ضده؟ فأجاب: بأن الأصل فيمن علم الحجر عليه بعد بلوغه، استصحابه حتى يغلب على الظن رشده بالاختبار. وأما من جهل حاله فعقوده صحيحة كمن علم رشده. اهـ. مرحومي. فيكون من جهل حاله الأصل فيه الرشد .اهـ.
والله أعلم.