السؤال
جزاكم الله خير الجزاء على هذا العمل، والاهتمام الدوري بالموقع.
لقد راودني سؤال عن ما سيحصل ما قبل قيام الساعة، وذلك في أيام الدجال. ذكر أن الدجال سيمكث في الأرض أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. وذكر النبي عندما تساءل الصحابة عن كيف سيصلون الصوات المفروضة، أنهم يقدرون له قدره. فسؤالي هنا: عندما تكون الشمس مشرقة، ستكون مشرقة في شق واحد من الأرض، أما الشق الآخر فسيكون مظلما، ولكن ما ذكر أنه سيكون اليوم بسنة أي أن الشمس ستكون مشرقة لوقت طويل، فكيف ستكون مشرقة للأرض كلها؟
أم أن المذكور يفهم أنها ستكون مشرقه كإشراقها في أيامنا الحالية لكن بمدة أطول، وأماكن أخرى ستكون مظلمة لمدة طويلة حتى تأتيها الشمس. وهل ذكر ذلك في أي من الأحاديث؟
وجزاكم الله خير الجزاء.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فاليوم يطلق ويراد به النهار، فيكون قسيم الليل، ويطلق كذلك على مدة الزمان كله.
قال الراغب في المفردات: اليوم يعبر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها. وقد يعبر به عن مدة من الزمان أي مدة كانت. اهـ.
وفي حديث النواس بن سمعان عن الدجال: قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم. قلنا: يا رسول الله؛ فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره ... رواه مسلم.
والإشكال الذي ذكره السائل لا يأتي إلا مع تفسير اليوم بالنهار، الذي هو قسيم الليل، ولكن الظاهر في الحديث أن المراد باليوم: مجموع الليل والنهار، كما يدل عليه السؤال عن لبث الدجال في الأرض، أي مدة زمانه، وهذا لا يقصد به النهار دون الليل، وإنما يقصد به مجموعهما، فيتناول الليل والنهار، فيكون اليوم هنا هو اليوم الفلكي الذي يقسم على أربع وعشرين ساعة.
ويدل على ذلك أيضا أن الصلاة منها ما يؤدى في النهار كالظهر والعصر، ومنها ما يؤدى في الليل كالمغرب والعشاء. وقد قال ابن الأثير في النهاية: قد يراد باليوم الوقت مطلقا. ومنه الحديث تلك أيام الهرج أي وقته. ولا يختص بالنهار دون الليل. اهـ.
وعلى ذلك، فلا معنى لقول السائل: (كيف ستكون الشمس مشرقة للأرض كلها) فالشمس لا يتغير حالها، فتطلع على الأرض كلها في آن واحد! وإنما يتباطأ الزمان فتطول مدة النهار والليل كليهما معا.
ومع ذلك فقد اختلف أهل العلم في تأويل هذه العبارة: "يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة ... ":
* فمنهم من تأولها، كالتوربشتي والبيضاوي كلاهما في شرح مصابيح السنة، وابن المنادي على ما حكاه عنه ابن الجوزي في كشف المشكل.
* ومنهم من حملها على ظاهرها، كالقاضي عياض والقرطبي والنووي وغيرهم من الكبار، وهو الراجح كما يدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: وسائر أيامه كأيامكم، وكما يدل عليه سؤال: "ذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟" وجواب النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا، اقدروا له قدره.
قال القاضي عياض في إكمال المعلم: قوله: "يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم جمعة" ما جاء بعد يفسر أنه على ظاهره غير متأول. وقولهم: "أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، أقدر له قدره" هذا حكم مخصوص بذلك اليوم، شرعه لنا صاحب الشرع، ولولا ذلك ووكلنا فيه إلى اجتهادنا لكانت الصلاة فيه عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. اهـ.
وقال أبو العباس القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ظاهر هذا: أن الله تعالى يخرق العادة في تلك الأيام، فيبطئ بالشمس عن حركتها المعتادة في أول يوم من تلك الأيام، حتى يكون أول يوم كمقدار سنة معتادة، ويبطئ بالشمس حتى يكون كمقدار شهر، والثالث حتى يكون كمقدار جمعة، وهذا ممكن، لا سيما وذلك الزمان تنخرق فيه العوائد كثيرا، لا سيما على يدي الدجال. وقد تأوله أبو الحسين ابن المنادي على ما حكاه أبو الفرج الجوزي فقال: المعنى: يهجم عليكم غم عظيم لشدة البلاء، وأيام البلاء طوال، ثم يتناقص ذلك الغم في اليوم الثاني، ثم يتناقص في الثالث، ثم يعتاد البلاء، كما يقول الرجل: اليوم عندي سنة، كما قال: (وليل المحب بلا آخر). قال أبو الفرج: وهذا التأويل يرده قولهم: "أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: لا، اقدروا له قدره" والمعنى: قدروا الأوقات للصلاة، غير أن أبا الحسين بن المنادي قد طعن في صحة هذه اللفظات. أعني قولهم: أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره فقال: هذا عندنا من الدسائس التي كادنا بها ذوو الخلاف علينا قديما، ولو كان ذلك صحيحا لاشتهر على ألسنة الرواة، كحديث الدجال؛ فإنه قد رواه ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وسمرة بن جندب، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، وأبو مسعود البدري، وأنس بن مالك، وعمران بن حصين، ومعاذ بن جبل، ومجمع بن جارية - رضي الله عنهم - في آخرين، ولو كان ذلك لقوي اشتهاره، ولكان أعظم وأقطع من طلوع الشمس من مغربها. قلت – أي القرطبي صاحب المفهم - : هذه الألفاظ التي أنكرها هذا الرجل صحيحة في حديث النواس، خرجها الترمذي من حديث النواس، وذكر الحديث بطوله نحوا مما خرجه مسلم، وقال في الحديث: حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وقد خرجه أبو داود، وأيضا من حديث عبد الرحمن بن يزيد المذكور، وذكر طرفا من الحديث ولم يذكره بطوله، فصح الحديث عند هؤلاء الأئمة، وانفراد الثقة بالحديث لا يخرم الثقة به؛ لأنه قد يسمع ما لا تسمعه الجماعة في وقت لا يحضر غيره، وكم يوجد من ذلك في الأحاديث، وقد رواه قاسم بن أصبغ من حديث جابر بن عبد الله على ما يأتي. وتطريق إدخال المخالفين الدسائس على أهل العلم والتحرز والثقة، بعيد لا يلتفت إليه؛ لأنه يؤدي إلى القدح في أخبار الآحاد، وإلى خرم الثقة بها، مع أن ما تضمنته هذه الألفاظ أمور ممكنة الوقوع في زمان خرق العادات، كسائر ما جاء مما قد صح وثبت من خوارق العادات التي تظهر على يدي الدجال، مما تضمنه هذا الحديث وغيره، فلا معنى لتخصيص هذه الألفاظ بالإنكار، والكل ظنون مستندة إلى أخبار العدول، والله أعلم بحقائق الأمور. اهـ.
وتبعه على ذلك أبو عبد الله القرطبي في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة.
والله أعلم.