السؤال
بعض المشايخ يحذر من اتخاذ الرقية مهنة، ويذكر بعض أقوال أهل العلم التي يظهر منها أنها نهي عن الرقية، منها:
قول الإمام مالك: "وإني لأرى هؤلاء الذين يعالجون المجانين، ويزعمون أنهم يعالجونهم بالقرآن، وقد كذبوا، ليس كما قالوا، ولو كانوا يعلمون ذلك، لعلمته الأنبياء، قد صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، فلم يعرفه؛ حتى أخبرته الشاة. وإني لأرى هذا ينظر في الغيب، وإنها عندي لمن حبائل الشيطان".
وقول الإمام أحمد في الرجل يزعم أنه يعالج المجنون من الصرع بالرقى والعزائم، أو يزعم أنه يخاطب الجن ويكلمهم، ومنهم من يخدمه، قال: "ما أحب لأحد أن يفعله، تركه أحب إلي"، فما رأيكم في هذا؟ بارك الله فيكم.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالرقية الشرعية لا نعلم أحدا من أهل العلم نهى عنها، أو ذمها! وقد قامت الأدلة الواضحة على مشروعيتها، وراجع في ذلك الفتويين: 32760، 130793. وكذلك قامت الأدلة على جواز أخذ الأجرة عليها، وراجع في ذلك الفتاوى: 6125، 111260، 332497.
وأما كلام الإمام أحمد -رحمه الله- فهو في حكم استخدام الجن والتعامل معهم، أو فيمن يرقي برقية شركية، أو يكون فعله كفعل الكهان؛ ولذلك قال أبو يعلى الفراء الحنبلي في (الأحكام السلطانية): يمنع من التكسب بالكهانة، واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي. وقد قال أحمد .... اهـ. وذكر الكلام الذي نقله السائل عن الإمام أحمد.
وأورده ابن مفلح في فصول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من كتاب: (الآداب الشرعية)، ثم عاد بعد ذلك وعقد في أبواب التداوي فصلا: فيما يجوز من التمائم والتعاويذ والكتابة للمرض واللدغ والعين ونحوه. وذكر فيه عن الإمام أحمد أنه كان يرقي، ويكتب رقى للمرضى. وراجع للفائدة الفتاوى: 7529، 106208، 107542، 76737.
وكذلك كلام الإمام مالك، يحمل على من يزعم القدرة على قتل الشيطان الذي يصرع المريض، أو من يشبه عمله عمل الكهان، فيدعي شيئا من الغيب، كما يدل عليه سياق الكلام؛ ولذلك أورده ابن رشد في (البيان والتحصيل) في مسألة: النظر في النجوم وعلم الحساب. ومما قال في هذا الموضع: روي عن النبي عليه السلام أنه قال: من صدق كاهنا أو عرافا أو منجما، فقد كفر بما أنزل على قلب محمد، ويمكن أن يصادف في بعض الجمل، وذلك من حبائل الشيطان، فلا ينبغي أن يغتر أحد بذلك، ويجعله دليلا على صدقه فيما يقول، كما لا ينبغي أن يصدق المعالجون الذين يعالجون المجانين فيما يزعمون من أنهم يعالجون بالقرآن ... اهـ.
وقال في موضع آخر: ومن كتاب الأقضية: وسئل -يعني الإمام مالكا- عن رجل به لمم، فقيل له: إن شئت أن نقتل صاحبك قتلناه، فقال له بعض من عندنا: لا تفعل، اصبر، واتق الله، وقال له بعضهم: اقتله، فإنما هو مثل اللص يعرض يريد مالك، فاقتله، فقال: "إن أعظمهم عندي جرما الذي مثله باللص، قيل: فما رأيك؟ قال: لا علم لي بهذا، هذا من الطب". قال ابن رشد: قوله: "به لمم"، أي: خبل وصرع، وبه جنون من مس الشيطان ... وقوله: "وقيل له: إن شئت أن تقتل صاحبك قتلناه" هو من كذب الذين يعالجون المجانين، ومخاريقهم الذين يزعمون أنهم يقتلون بكلامهم وعزائمهم الشيطان الذي يصرع المجنون، ويسجنونه إذا شاؤوا، ويعاقبونه بما شاؤوا، وذلك من خرق العادة الذي خص الله به سليمان - عليه السلام-، بإجابته دعوته في قوله: {وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد} [ص:35] الآية. وقد جاء في الصحيح عن النبي عليه السلام أنه قال: اعترض لي الشيطان في مصلاي هذا، فأخذته بحلقه فخنقته؛ حتى إني لأحد برد لسانه على ظهر كفي، ولولا دعوة لأخي سليمان قبلي، لأصبح مربوطا تنظرون إليه، فإذا لم يقدر النبي عليه السلام على ربطه من أجل دعوة أخيه سليمان: {وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} [ص:35]، فأحرى أن لا يقدر الذي يعالج المجانين على قتل الشيطان بالكلام دون أن يراه، أو يباشر قتله بما أجرى الله العادة من أنه يقتل به الأحياء، فإذا كان قتله إياه من المستحيل المحتم الذي لا يدخل تحت قدرته، لم يصح أن يقال: ذلك جائز، كما قاله الذي مثله باللص، فأنكر عليه قوله مالك، إلا أن ذلك لا يجوز، كما ذهب إليه العتبي؛ بدليل إدخاله على ذلك الحديث الذي ذكره من سماع موسى -يعني حديث: أشد الناس عذابا القاتل غير قاتله-.
والخبل والصرع والتخبط الذي يعتري المجنون، مرض من الأمراض يصيبه من وسوسة الشيطان إياه، وتفزيعه له، وترويعه إياه بما يسوله له، ويلقيه في نفسه؛ إذ لا يقدر له على أكثر من الوسوسة التي أمر الله بالاستعاذة منها في سورة الناس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي لم يقدر منكم إلا على الوسوسة، وقال: إن الشيطان لا يفتح غلقا، ولا يحل وكأ، ولا يكشف أما، ولكون ما يصيب المجنون من الصرع من الأمراض، قال مالك في هذه الرواية: لا أعلم في هذا من الطب، يريد أن الطبيب هو الذي يداوي الأمراض، ويعالج الأدواء بما أنزل الله لها من الدواء، لا هؤلاء الذين يكذبون فيما يزعمون من قتلهم الشيطان. اهـ.
والله أعلم.