الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقضية الإيمان بالقضاء والقدر لا تعالج بالبحث والغوص والتنقيب، وإخضاعها للنظر العقلي، والمنطق، والقياس البشري، وإنما تعالج بالإجمال والاقتصار على نصوص الوحي، والإذعان لها، والتسليم. شأنها في ذلك شأن كل قضايا الإيمان بالغيب بصفة عامة.
فأنت -أيها السائل الكريم- حين تبحث عن مخرج من هذه الحيرة التي وصفت بهذه الطريق التي سلكت، فأنت كمن يداوي نفسه بعين الداء الذي أصابه، فتكون النتيجة حتما أن يسلم نفسه للهلاك!
ولتفصيل ذلك نقول: إن الإيمان بالقدر ما هو إلا جزء من عقيدة الإيمان بالغيب! فكما يؤمن العبد بالله تعالى، واليوم الآخر، دون أن يرى، ودون أن يقيس ذلك على عالم الشهادة، فكذلك يؤمن بالقدر، وإن كانت حقيقته تتعدى حدود الإدراك البشري، والعقل الإنساني.
وذلك أن القدر إنما هو مظهر من مظاهر ربوبية الله تعالى على عباده، وأثر من آثار قدرته وعلمه وخلقه، فكما نؤمن بصفات الله، ونفوض كيفيتها، والعلم بحقيقتها إلى الله تعالى، فكذلك الإيمان بالقدر، فإنما هو قدرة الله، التي هي صفة من صفاته، ولذلك لما سئل الإمام أحمد -رحمه الله- عن القدر، قال: القدر: قدرة الله -عز وجل- على العباد. أخرجه الخلال في كتاب السنة.
قال ابن القيم في طريق الهجرتين: القضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: "القدر قدرة الله"، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان، وقال: إنه شفى بهذه الكلمة، وأفصح بها عن حقيقة القدر. اهـ.
وقال في شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل: استحسن ابن عقيل هذا الكلام جدا وقال: "هذا يدل على دقة علم أحمد، وتبحره في معرفة أصول الدين". وهو كما قال أبو الوفاء؛ فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أعمال العباد، وكتابها، وتقديرها. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: القدر يتعلق بقدرة الله تعالى، ولهذا قال الإمام أحمد: "القدر قدرة الله تعالى" يشير إلى أن من أنكر القدر، فقد أنكر قدرة الله تعالى، وأنه يتضمن إثبات قدرة الله تعالى على كل شيء. اهـ.
وهذا في الحقيقة مأخوذ من كلام الفاروق عمر -رضي الله عنه-، فقد روى ابن بطة في الإبانة بإسناد عن عمر أنه قال: القدر قدرة الله عز وجل، فمن كذب بالقدر، فقد جحد قدرة الله -عز وجل-.
وهذا هو أصل البحث، فمن علم أن عقله لا يحيط بقدرة الله علما، ولا يدرك كنهها وحقيقتها، علم أن البحث عن سر القدر إنما هو إهدار لجهده، وتعطيل لحاله، وإعمال لعقله في غير مجاله!
ولذلك جاءت نصوص الشرع وآثار السلف متواطئة على النهي عن الخوض في القدر! ولفت النظر إلى أن حقيقته وكنهه سر من أسرار الله تعالى، التي لم يطلع عليها أحدا من خلقه، وأن البحث والتنقيب عن ذلك سبب للضلال والخذلان، والوقوع في وساوس الشيطان.
روى ابن بطة في الإبانة الكبرى بإسناده عن ابن عمر أنه سئل عن القدر، فقال: شيء أراد الله أن لا يطلعكم عليه، فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم.
وقال أبو المظفر السمعاني في الانتصار لأصحاب الحديث: أتى رجل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال: أخبرني عن القدر؟ قال: طريق مظلم، فلا تسلكه. قال: أخبرني عن القدر؟ قال: بحر عميق، فلا تلجه. قال أخبرني عن القدر؟ قال: سر الله، فلا تكلفه. اهـ.
وقال الطحاوي في عقيدته: أصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان. فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة؛ فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال الله تعالى في كتابه: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)، فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب. اهـ.
وقال البربهاري في شرح السنة: الكلام والجدل والخصومة في القدر خاصة منهي عنه عند جميع الفرق؛ لأن القدر سر الله، ونهى الرب تبارك وتعالى الأنبياء عن الكلام في القدر، ونهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخصومة في القدر، وكرهه العلماء، وأهل الورع، ونهوا عن الجدال في القدر، فعليك بالتسليم، والإقرار، والإيمان، واعتقاد ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جملة الأشياء، وتسكت عما سوى ذلك. اهـ.
وقال النووي في شرح مسلم: قال أبو المظفر السمعاني: سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسنة دون محض القياس، ومجرد العقول، فمن عدل عن التوقيف فيه ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا يصل إلى ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى التي ضربت من دونها الأستار، اختص الله به، وحجبه عن عقول الخلق، ومعارفهم؛ لما علمه من الحكمة، وواجبنا أن نقف حيث حد لنا، ولا نتجاوزه، وقد طوى الله تعالى علم القدر على العالم، فلم يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب. وقيل: إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف قبل دخولها. اهـ.
وقال ابن رجب في رسالة (بيان فضل علم السلف على علم الخلف): النهي عن الخوض في القدر يكون على وجوه:
منها: ضرب كتاب الله بعضه ببعض، فينزع المثبت للقدر بآية، والنافي له بأخرى. ويقع التجادل في ذلك ...
ومنها: الخوض في القدر إثباتا ونفيا بالأقيسة العقلية، كقول القدرية: لو قدر وقضى، ثم عذب كان ظالما. وقول من خالفهم: إن الله جبر العباد على أفعالهم ونحو ذلك.
ومنها: الخوض في سر القدر، وقد ورد النهي عنه عن علي وغيره من السلف، فإن العباد لا يطلعون على حقيقة ذلك. اهـ.
وقال الدكتور عمر الأشقر في القضاء والقدر: البحث في سر القدر والغوص في أعماقه يبدد الطاقة العقلية ويهدرها، إن البحث في كيفية العلم والكتابة والمشيئة والخلق، بحث في كيفية صفات الله، وكيف تعمل هذه الصفات، وهذا أمر محجوب علمه عن البشر، وهو غيب يجب الإيمان به، ولا يجوز السؤال عن كنهه، والباحث فيه كالباحث عن كيفية استواء الله على عرشه، يقال له: هذه الصفات التي يقوم عليها القدر معناها معلوم، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة. إن السؤال عن الكيفية هو الذي أتعب الباحثين في القدر، وجعل البحث فيه من أعقد الأمور وأصعبها، وأظهر أن الإيمان به صعب المنال، وهو سبب الحيرة التي وقع فيها كثير من الباحثين.
ولذا فقد نص جمع من أهل العلم على المساحة المحذورة التي لا يجوز دخولها في باب القدر، وقد سقنا قريبا مقالة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- التي يقول فيها: من السنة اللازمة الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لم؟ ولا كيف؟ لقد خاض الباحثون في القدر في كيفية خلق الله لأفعال العباد مع كون هذه الأفعال صادرة عن الإنسان حقيقة، وبحثوا عن كيفية علم الله بما العباد عاملون، وكيف يكلف عباده بالعمل مع أنه يعلم ما سيعملون، ويعلم مصيرهم إلى الجنة أو النار. وضرب الباحثون في هذا كتاب الله بعضه ببعض، وتاهوا وحاروا ولم يصلوا إلى شاطئ السلامة، وقد حذر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته من أن تسلك هذا المسار، وتضرب في هذه البيداء، ففي سنن الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه، حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال: أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه. اهـ.
والمقصود أن الخوض في قضية القضاء والقدر بالمنطق الإنساني، والعقل البشري، ومحاولة إخضاعها للأقيسة الواقعة في الحياة الدنيا: إنما هو ضرب من المحال، وقد حارت البشرية منذ القدم في هذه القضية لهذا السبب!
وللأستاذ الدكتور (إلياس بلكا) كتاب مفيد في أصل هذه القضية بعنوان: (الغيب والعقل دراسة في حدود المعرفة البشرية) وكان الفصل الخامس والأخير منه: (نماذج من عوالم الغيب) وذكر منها: (سر القدر)، قال فيه (ص 208): من قضايا العقيدة والغيب التي تتعالى على العقل، وتتجاوز سلطته مشكلة القدر! وليرح الإنسان نفسه؛ فلن يصل في هذه الحياة الدنيا إلى كشف حقيقتها، ومعرفة سرها؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إذا ذكر القدر فأمسكوا. اهـ.
وقال أيضا (ص 210): إن الحرية المطلقة التي قال بها بعض الفلاسفة، وتغنى بها بعض الشعراء مجرد أسطورة، أو حلم، فالقدر حاضر في كل شيء، وأوله أنه لا أحد منا اختار مولده في الزمان والمكان، ولا أبويه، ولا جسمه، ولا طبعه. والإنسان يعيش في بيئة خاصة تحكم كثيرا من شؤون حياته، فللظروف الطبيعية آثارها، وللمجتمع ونظمه قيوده. وكثيرا ما يشعر الفرد بأنه كالقشة التي يحملها السيل، فلا يعرف أين يسير، فهو لا يملك من أمره شيئا. لكن في الوقت نفسه يوجد مجال لحرية الإنسان واختياره، حيث يحس كل أحد بأن له قدرة معينة على الحسم في كثير من الأمور. وتكمن مشكلة القدر في التوفيق بين هذين الجانبين: القدر الإلهي الذي يهيمن على كل شيء، فهو خالق الفرد والمجتمع والطبيعة. والاختيار الإنساني الفردي الحر. اهـ.
وقال أيضا: تشكل هذه القضية أيضا محور مجموعة من الفلسفات؛ كما عند بوهم، وجرسونيد، ولو كيي. بينما اعتبر رنوفيي أن الإشكالية الفلسفية الأولى عبر التاريخ؛ هي: كيفية التوفيق بين الحرية والحتمية.
وقد اعتبر فولتير أن قضية أصل الشر تتجاوز طاقة العقل، لذلك فهي غير قابلة للفهم والإدراك البشريين.
وكذلك قال هيوم: إن بعض الأسئلة الميتافيزيقية، كأصل الشر، ومشكلة الحرية والضرورة؛ تبين بوضوح حدود العقل وعجزه عن النفاذ إلى بعض الأمور.
لذلك كانت مسألة الحرية أشد القضايا الميتافيزيقية صعوبة واستغلاقا. فلا عجب -كما قال بريهيي- أن تبقى قضية القدر وأصل الشر دون حل، برغم أنها أثيرت منذ قرون.
وفي السياق نفسه اعتبر أستاذ الفلسفة المصري زكريا إبراهيم أن مشكلة الحرية هي مشكلة الوجود الإنساني بأسره، وهي لذلك مشكلة المشاكل. قال: مشكلة الحرية هي بلا ريب من أقدم المشكلات الفلسفية وأعقدها ، فقد واجهت الباحثين من قديم الزمان، وما برحت تؤرق مفكري اليوم كما أرقت من قبل فلاسفة اليونان، ولذلك سلم زكريا إبراهيم مع الفلاسفة الميتافيزيقيين؛ بأن: الأصل في الحرية هو سر؛ هيهات لنا أن نزيح النقاب عنه. اهـ.
إلى أن قال: إن إشكالية الحرية هي بمثابة النقطة التي يلقى عندها النظر العقلي حتفه، على حد تعبير الفرنسي لافل! فهذه القضية درس آخر للعقل البشري، ومظهر بارز لقصوره الذاتي، فهو مدعو إلى السجود لخالقه والاستسلام لبارئه بمجرد دخوله عالم الغيب بجلاله وسعته وعظمته. اهـ.
ثم قال في خاتمة هذا الفصل (ص 233): إن العالم معقد شديد التعقيد، بل ما أكثر الألغاز التي تحيط بنا من كل جانب، ولا نحسن عنها جوابا. ويبدو العقل فعلا ضعيفا وعاجزا أمام سعة الوجود، سواء أكان من عالم الشهادة، أم من عوالم الغيب التي لا تحصى. لكننا حين نسجل قصور المعرفة الإنسانية ونسبيتها وتناقضها، بل تهافتها أحيانا، فلا نفعل ذلك احتقارا للعقل، ولا تهوينا لشأنه، بل ردا له إلى منزلته الطبيعية، وتوجيها له إلى مجاله الحقيقي؛ إذ كان الموقف الإسلامي في هذا الموضوع، وسطا بين تأليه العقل، وإقحامه في قضايا ليس من طبيعته إدراك حقائقها، وبين إهماله وتركه بالكلية. فلقد كرم الله تعالى الإنسان، وفضله على كثير مما خلق، ومن أهم مظاهر هذا التكريم أن متعه بالعقل والوعي، فرفعه عن درجة الحيوان، ثم أرسل إليه الأنبياء ليهدوه إلى ما لا يستطيع العقل إدراكه، أو إدراك الصواب فيه، وبهذا لم يهمله، ولم يتركه سدى، ولهذا كانت عقيدة الإيمان بالغيب ضرورة للإنسان بدونها لا يكون لحياته معنى. اهـ.
والله أعلم.