الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد :
فالصحيح أن القراءات العشر متواترة، وأما السبع منها فقطعا بل نقل الإجماع عليه. قال العطار في حاشيته على الجلال المحلي : هذا الحكم مجمع عليه بين أهل السنة إلا من شذ من الحنفية كصاحب البديع ، فإنه ذهب إلى أنها مشهورة، وذهب المعتزلة إلى أنها آحاد غير متواترة والمراد نفي التواتر عن قراءة الشيخ المخصوص بتمامها كنافع -مثلا- بل منها ما هو آحاد ومنها ما هو متواتر، وليس المراد نفي التواتر من أصله وإلا لزم نفي التواتر عن القرآن كله والإجماع خلافه .
قال الإمام النووي في المجموع : قال أصحابنا وغيرهم : تجوز القراءة في الصلاة وغيرها بكل واحدة من القراءات السبعة , ولا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة ; لأنها ليست قرآنا , فإن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر , وكل واحدة من السبعة متواترة , هذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه , ومن قال غيره فغالط أو جاهل , وأما الشاذة فليست متواترة , فلو خالف وقرأ بالشاذة أنكر عليه قراءتها في الصلاة أو غيرها , وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ , وقد ذكرت [ تفصيله ] في التبيان في آداب حملة القرآن . ونقل الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذ، وأنه لا يصلى خلف من يقرأ بها , قال العلماء : فمن قرأ بالشاذ إن كان جاهلا به أو بتحريمه عرف ذلك , فإن عاد إليه بعد ذلك أو كان عالما به عزر تعزيرا بليغا إلى أن ينتهي عن ذلك , ويجب على كل مكلف قادر على الإنكار أن ينكر عليه , فإن قرأ الفاتحة في الصلاة بالشاذة - فإن لم يكن فيها تغير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصه صحت صلاته وإلا فلا , وإذا قرأ بقراءة من السبعة استحب أن يتم القراءة بها , فلو قرأ بعض الآيات بها وبعضها بغيرها من السبعة جاز بشرط أن يكون ما قرأه بالثانية مرتبطا بالأولى .
وأورد العطار في حاشيته على الجلال المحلي شبهتين ورد عليهما فقال : وهنا بحثان :
الأول : أن الأسانيد إلى الأئمة السبعة وأسانيدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم على ما في كتب القراءة آحاد لا تبلغ عدد التواتر فمن أين جاء التواتر .
وأجيب بأن انحصار الأسانيد المذكورة في طائفة لا يمنع مجيء القرآن عن غيرهم وإنما نسبت القراءة إلى الأئمة ومن ذكر في أسانيدهم والأسانيد إليهم لتصديهم لضبط الحروف وحفظ شيوخهم فيها ومع كل منهم في طبقته ما يبلغها عدد التواتر ; لأن القرآن قد تلقاه من أهل كل بلد بقراءة إمامهم الجم الغفير عن مثلهم , وكذلك دائما مع تلقي الأمة لقراءة كل منهم بالقبول .
الثاني: أن من القواعد أنه لا تعارض بين قاطعين , فلو كانت القراءات السبع متواترة لما تعارضت مع أنه وقع فيها ذلك .
وجوابه أنا نمنع التعارض ; لأن من قرأ بإحدى القراءتين لا ينكر الأخرى ولا يتأتى التعارض، إلا لو نفى قراءة غيره وشهرته بروايته واعتناؤه بها لا يقتضي أنه ينفي غيرها كأرباب المذاهب ... وقول الكوراني إن كلام ابن الحاجب لا وجه له ; لأن نقلة المدود هم نقلة القرآن ولو كان المد ونحوه غير متواتر لزم أن القرآن غير متواتر مردود بأن المتواتر أصل المد والذي قال ابن الحاجب بعدم تواتره ما يتحقق اللفظ بدونه وهو ما زيد في المد كما أشار لذلك الشارح ...
قال ابن الجزري في أول النشر : لا نعلم أحدا تقدم ابن الحاجب في ذلك , وقد نص أئمة الأصول على تواتر ذلك كله كالقاضي أبي بكر في كتابه الانتصار وغيره .
وقال الفتوحي الحنبلي في شرح الكوكب المنير : ( و ) القراءات ( السبع متواترة ) عند الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة من علماء السنة . نقله السرخسي من أصحاب الشافعي في كتاب الصوم من الغاية . وقال : قالت المعتزلة : آحاد انتهى . واستدل من قال : إنها آحاد كالطوفي في شرحه . قال : والتحقيق أنها تواترت عنهم لا إليهم - بأن أسانيد الأئمة السبعة بهذه القراءات السبع إلى النبي صلى الله عليه وسلم موجودة في كتب القراءات . وهي نقل الواحد عن الواحد , لم تستكمل شروط التواتر . ورد بأن انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القراءات عن غيرهم . فقد كان يتلقى القراءة من كل بلد بقراءة إمامهم الذي من الصحابة أو من غيرهم : الجم الغفير عن مثلهم . وكذلك دائما , فالتواتر حاصل لهم , ولكن الأئمة الذين قصدوا ضبط الحروف وحفظوا شيوخهم فيها جاء السند من قبلهم . وهذا كالأخبار الواردة في حجة الوداع هي آحاد , ولم تزل حجة الوداع منقولة عمن يحصل بهم التواتر عن مثلهم في كل عصر . فينبغي أن يتفطن لذلك , ولا يغتر بقول من قال : إن أسانيد القراء تشهد بأنها آحاد . وإذا تقرر هذا , فاستثنى ابن الحاجب ومن تبعه من المتواتر ما كان من قبيل صفة الأداء , كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوه . ومراده : مقادير المد وكيفية الإمالة لا أصل المد والإمالة . فإن ذلك متواتر قطعا . فالمقادير , كمد حمزة وورش . فإنه قدر ست ألفات . وقيل : خمس . وقيل : أربع . ورجحوه . ومد عاصم : قدر ثلاث ألفات , والكسائي : قدر ألفين ونصف وقالون : قدر ألفين , والسوسي : قدر ألف ونصف ونحو ذلك . وكذلك الإمالة تنقسم إلى محضة . وهي أن ينحني بالألف إلى الياء , وبالفتحة إلى الكسرة , وإلى بين بين . وهي كذلك , إلا أنها تكون إلى الألف والفتحة أقرب , وهي المختارة عند الأئمة . أما أصل التخفيف في الهمزة والتشديد فمتواتر , وأما كون أن من القراء من يسهله، ومنهم من يبدله ونحو ذلك . فهذه الكيفية هي التي ليست متواترة . ولهذا كره الإمام أحمد رضي الله عنه وجماعة من السلف قراءة حمزة لما فيها من طول المد والكسر والإدغام ونحو ذلك ; لأن الأمة إذا أجمعت على فعل شيء لم يكره فعله . وهل يظن عاقل أن الصفة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وتواترت إلينا يكرهها أحد من المسلمين ؟ فعلمنا بهذا أن هذه الصفات ليست متواترة , وهو واضح . وهو ظاهر كلام أحمد وجمع , وكذلك قراءة الكسائي ; لأنها كقراءة حمزة في الإمالة والإدغام . كما نقله السرخسي في الغاية . فلو كان ذلك متواترا لما كرهه أحد من الأئمة . وزاد أبو شامة الألفاظ المختلف فيها بين القراء أي اختلفوا في صفة تأديتها . كالحرف المشدد , يبالغ بعضهم فيه حتى كأنه يزيد حرفا , وبعضهم لا يرى ذلك , وبعضهم يرى التوسط بين الأمرين , وهو ظاهر , ويمكن دخوله تحت قول ابن الحاجب في الاحتراز عنه في استثنائه ما ليس من قبيل الأداء , لكن قال ابن الجزري : لا نعلم أحدا تقدم ابن الحاجب إلى ذلك ; لأنه إذا ثبت تواتر اللفظ ثبت تواتر هيئته ; إذ اللفظ لا يقوم إلا به , ولا يصح إلا بوجوده . ا هـ .
وقال الزرقاني في مناهل العرفان : وقد يناقش هذا بأنها لو تواترت جميعا ما اختلف القراء في شيء منها لكنهم اختلفوا في أشياء منها فإذا لا يسلم أن تكون كلها متواترة. ويجاب عن هذا بأن الخلاف لا ينفي التواتر بل الكل متواتر وهم فيه مختلفون فإن كل حرف من الحروف السبعة التي نزل بها القرآن بلغه الرسول إلى جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب حفظا لهذا الكتاب وهم بلغوه إلى أمثالهم وهكذا... ولا شك أن الحروف يخالف بعضها بعضا فلا جرم تواتر كل حرف عند من أخذ به وإن كان الآخر لم يعرفه ولم يأخذ به وهنا يجتمع التخالف والتواتر وهنا يستقيم القول بتواتر القراءات السبع بل القراءات العشر كما يأتي ويذهب ابن الحاجب إلى تواتر القراءات السبع
غير أنه يستثني منها ما كان من قبيل الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة