الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فالباطل المحض يتعسر تصوره، ولا بد أن يحمل في نفسه تناقضا ذاتيا يظهر بطلانه!
ومن ذلك الاستدلال على عدم حصول المعرفة بدلالة العقل، بأن ذلك لا يمكن إلا عن طريق العقل؛ فيقع الاستدلال بالشيء على نفسه، وهذا هو الدور الممتنع! وهذا ما عبر عنه السائل بقوله: (لأن الناقد سيكون نفسه هو العقل أيضا؛ فيحكم بنفسه على نفسه)!
وهذا تناقض ذاتي ظاهر؛ لأنه استدلال بالعقل على عدم صحة دلالة العقل! فإن بطلان الدور هو ذاته قضية عقلية محضة.
وهذا المسلك في غاية البطلان والخطورة، وصاحبه لا يزال به شكه؛ حتى يطعن في المسلمات والبدهيات العقلية المستقرة في نفوس البشر، كما أشار إليه السائل بقوله: (فالملحد يعلم أن عقله قد يضله، وأنه حتى المسلمات العقلية التي لديه، ولدى البشر كلهم -مثل أن البعض أصغر من الكل، و 1+ 1=2-، يمكن أن تكون خاطئة)! وهذا بالفعل مآل بعض الفلاسفة قديما وحديثا.
ومن بلغ هذه الدرجة من إنكار المسلمات، والطعن في البدهيات، وجحد العلوم الفطرية الضرورية: لا تستقيم مجادلته؛ لأنه أنكر الأصل الذي يبنى عليه، ويستدل به على غيره؛ لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل: البرهان الذي ينال بالنظر فيه العلم، لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية؛ فإن كل علم ليس بضروري، لا بد أن ينتهي إلى علم ضروري؛ إذ المقدمات النظرية لو أثبت بمقدمات نظرية دائما، لزم الدور القبلي، أو التسلسل في المؤثرات في محل له ابتداء، وكلاهما باطل بالضرورة، واتفاق العقلاء من وجوه؛ فإن العلم النظري الكسبي هو: ما يحصل بالنظر في مقدمات معلومة بدون النظر؛ إذ لو كانت تلك المقدمات أيضا نظرية؛ لتوقف على غيرها؛ فيلزم تسلسل العلوم النظرية في الإنسان، والإنسان حادث كائن بعد أن لم يكن، والعلم الحاصل في قلبه حادث، فلو لم يحصل في قلبه علم إلا بعد علم قبله؛ للزم أن لا يحصل في قلبه علم ابتداء، فلا بد من علوم بديهية أولية يبتدؤها الله في قلبه، وغاية البرهان أن ينتهي إليها، ثم تلك العلوم الضرورية قد يعرض فيها شبهات ووساوس، كالشبهات السوفسطائية، مثل الشبهات التي يوردونها على العلوم الحسية والبديهية .. والشبهات القادحة في تلك العلوم، لا يمكن الجواب عنها بالبرهان؛ لأن غاية البرهان أن ينتهي إليها، فإذا وقع الشك فيها، انقطع طريق النظر والبحث؛ ولهذا كان من أنكر العلوم الحسية والضرورية، لم يناظر. اهـ.
وقال ابن حزم في الإحكام: وقد سألوا أيضا، فقالوا: بأي شيء عرفتم صحة حجة العقل، أبحجة عقل أم بغير ذلك؟ فإن قلتم: عرفناها بحجة العقل، ففي ذلك نازعناكم. وإن قلتم: بغير ذلك، فهاتوه.
قال أبو محمد - ابن حزم -: وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها، والجواب على ذلك -وبالله تعالى التوفيق-: أن صحة ما أوجبه العقل، عرفناه بلا واسطة، وبلا زمان، ولم يكن بين أول أوقات فهمنا وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة، ففي أول أوقات فهمنا: علمنا أن الكل أكثر من الجزء، وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر، وأن الشيء لا يكون قائما قاعدا في حال واحدة، وأن الطويل أمد من القصير؛ وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس، وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة، ولا زمان؛ فلا وقت للاستدلال فيه، ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك، إلا أنه فعل الله عز وجل في النفوس فقط، ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل. اهـ.
ونحن -المسلمين- بل وسائر الأسوياء من البشر، يثقون بالدلالة الصحيحة للعقل دون ارتياب، كما يثقون بالدلالة الصحيحة للحس. فإن كان لا يقدح في دلالة الحس أنه لا يصيب في بعض الأحوال العارضة والطارئة -كرؤية السراب، ورؤية العصا منكسرة في الماء-، فكذلك خطأ العقل في بعض الأحوال لا يقدح في صحة الاستدلال به من حيث المبدأ.
على أن خطأ العقل لا يكون في البدهيات والمسلمات، وإنما يكون في المعرفة النظرية الكسبية.
وعلى ذلك؛ فلا مجال البتة لاحتمال أن تكون عقولنا تخدعنا! ولا ريب أبدا في صحة المقدمات العقلية الضرورية والمسلمات البدهية.
وحكم العقل السليم الموافق للفطرة أو للحس: حكم صحيح قطعا. وقد جاءت الرسل، وأنزلت الكتب بموافقة ذلك؛ فاجتمع لقضية الإيمان: دلالة الفطرة، والعقل، والشرع معا. ومن هنا آمن كثير من البشر إيمانا كاملا لا ريب فيه، ولا شك معه.
وأما قوله تعالى: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [الحجر:99]، فليس معناه أن الإيمان الكامل أو اليقين لا يحصل إلا حين حضور الموت! وإنما معناه أن الموت نفسه يسمى يقينا؛ لأنه لا يرتاب في حصوله أحد؛ ولذلك أخبر القرآن عن أهل النار أنهم قالوا في بيان سبب دخولهم فيها: وكنا نكذب بيوم الدين. حتى أتانا اليقين [المدثر:46-47]. ولما توفي عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين، إني لأرجو له الخير من الله، والله، ما أدري -وأنا رسول الله- ما يفعل بي ولا بكم. رواه البخاري.
وقال البغوي في تفسيره: {حتى يأتيك اليقين} أي: الموت الموقن به، وهذا معنى ما ذكر في سورة مريم: {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا}. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إطلاق اليقين على الموت مجاز؛ لأن الموت لا يشك فيه. اهـ.
والله أعلم.