السؤال
هل يؤخذ بأثر عبد الله بن عمرو: خلقت الملائكة من نور الذراعين والصدر؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذا الأثر رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: حدثني أبي، أخبرنا أبو أسامة، أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: خلق الله -عز وجل- الملائكة من نور الذراعين والصدر.
ومن هذه الطريق رواه ابن المحب الصامت في (صفات رب العالمين) وقال: قال ابن الجوزي: "قد أثبت به القاضي ذراعين وصدرا صفة لله سبحانه، وقال: ليس بجوارح، وهذا قبيح؛ لأنه حديث ليس بمرفوع، ولا يصح، وهل يجوز أن يخلق مخلوق من ذات القديم؟ هذا أقبح مما ادعاه النصارى". قلت: وقد يقال: هو من جنس قول بعض الفلاسفة بالتولد، والواحد الذي زعموا صدر عنه، وقول الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والذين قالوا: بقدم روح آدم والمسيح، والذي في الصحيح "أن الملائكة خلقت من نور، كما أن الإنسان خلق من تراب، والجان من نار"، ولو خلقت الملائكة من النور القديم الذاتي لكانوا أشرف خلقا من آدم، ولم يؤمروا بالسجود له، ولما كانوا عبيدا، ولما عذبوا بذنوبهم لو أذنبوا، ولما كان يذكر في الأثر المأثور: "لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان" معنى في مقام التفضيل، فإن أريد أن الملائكة خلقت من النور الذي هو حجاب الذراعين والصدر، فإن الله حجابه النور، أو من أي نور شاء من النور الذي خلقه الله، فذاك، وإلا فلا حق إلا ما قام برهانه. اهـ.
ولا نعلم أحدا من أهل العلم قال بظاهر هذا الأثر، إما طعنا في ثبوته، وإما لكونه موقوفا ومأخوذا من أهل الكتاب، وإما تأويلا له على فرض ثبوته. فعلى هذه الأمور الثلاثة يدور كلام أهل العلم.
قال الدارمي في نقضه على المريسي: ادعى المعارض أن من الأحاديث التي تروى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحاديث منكرة مستشنعة جدا، لا يجوز إخراجها، فألف منها أحاديث بعضها موضوعة، وبعضها مروية تروى وتوقف لا يتقدم على تفسيرها، يوهم من حواليه من الأغمار أن آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلها ما روي منها مما يغيظ الجهمية في الرؤية والنزول، والصفات التي رواها العلماء المتقنون، ورأوها حقا، سبيلها سبيل هذه المنكرات التي لا يجوز إخراجها، ولا الاعتماد عليها، ثم أقبل عليها بعدما أقر أنها منكرات مستشنعة يفسرها، ويطلب لها مخارج يدعو إلى صواب التأويل في دعواه. ويحك أيها المعارض! وما يدعوك إلى تفسير أحاديث زعمت أنها مستشنعة لا أصل لها عندك، ولا يجوز التحدث بها؟!، فلو دفعتها بعللها وشنعها عندك كان أولى بك من أن تستنكرها، وتكذب بها، ثم تفسرها ثانية كالمثبت لها على وجوه ومعان من المحال والضلال الذي لم يسبقك إلى مثلها أحد من العالمين. اهـ. وذكر الدارمي هذا الأثر من جملة ما ذكر.
وقال ابن قتيبة في مشكل الحديث وبيانه: اعلم أن أول ما فيه أن عبد الله بن عمرو لم يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. وقد قيل: إن عبد الله بن عمرو أصاب وسقين من الكتب يوم اليرموك، فكانوا يقولون له إذا حدثهم: حدثنا ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا تحدثنا من وسقك يوم اليرموك ... قد رواه أسامة ولم يقل فيه: "ذراعيه وصدره" بل قال: "من نور الذراعين والصدر" مطلقا غير مضاف. فإن كان ذلك لم ينكر أن يكون صدرا وذراعين لبعض خلقه، ولم ينكر أيضا أن يكون الصدر والذراعان من أسماء بعض مخلوقاته. وقد وجدوا في النجوم ما يسمى بذراعين، وليس بمستنكر أن يسمى بهذا الاسم غيره من الخلق فيكون ما خلق من الملائكة خلق من ذلك، وتكون الفائدة فيه التنبيه على ما في قدرته عز وجل من خلق المخلوقات وإنشاء المحدثات، وإنه لا يعوزه عظيم ما يخلقه ولا يعجزه. اهـ.
وبنحو ذلك قال البيهقي في الأسماء والصفات والكرمي في أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات.
وقال القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات: اعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصلين:
أحدهما: في إثبات الذراعين والصدر.
والثاني: في خلق الملائكة من نوره.
أما الفصل الأول: فإنه غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره في إثبات الذراعين والصدر؛ إذ ليس في ذلك ما يحيل صفاته، ولا يخرجها عما تستحقه، لأنا لا نثبت ذراعين وصدرا هي جوارح وأبعاض، بل نثبت ذلك صفة كما أثبتنا اليدين والوجه والعين والسمع والبصر، وإن لم نعقل معناه ...
وأما الفصل الثاني: وهو خلق الملائكة من نوره فليس على ظاهره، ومعناه: خلقها بنوره؛ تشريفا لهم، كما خلق آدم بيده تشريفا له على غيره من خلقه، وإنما لم يجز حمله على ظاهره، لأن ذلك يحيل صفاته ويخرجها عما تستحقه، لأن نور ذاته قديم، والقديم لا يتبعض، فيكون بعضه مخلوقا كسائر صفاته، وهذا ظاهر كلام أحمد ... اهـ.
والله أعلم.