السؤال
أنا مسلم، متزوج من مسيحية، وعندي منها ابنتان. قيل لي مؤخرا: إنه بزواجي منها أني اعتديت على حد من حدود الله؛ لأنها تؤمن بالثليث كأغلب المسيحيين، وأنه لا يجوز أن أباشرها لكونه حراما.
أصارحكم بأني نادم؛ لأني لم أدقق في موضوع زواجي بها، ولم أركز على ركائز اختيار الزوجة، واكتفيت بما عرف عن جواز زواج المسلم من كتابية.
أخبرت زوجتي عن الإسلام، ولكنها لا تنوي اعتناقه، وذلك ما تمنيت، ورجوت، ولكنها لم تعارض، أو تتدخل في تربيتي بناتي على تعاليم ديني.
أنا في حيرة، ولا أريد إغضاب المولى تعالى. لا يقلقني عدم جواز مباشرتها، ولكني أخاف على بناتي في هذا البلد الأجنبي، وأريد تربيتهم على الإسلام، ولا أريد تركهما مع أمهم؛ لكي لا تنجرا إلى بعض أباطيل المسيحية.
أطلب رأيكم لأني محتار، وأخشى غضب ربي، كما ذكرت، وندمي لا ينفع على خطئي الماضي.
جزاك الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الراجح من أقوال الفقهاء حل نكاح نساء أهل الكتاب، بدلالة قول الله -عز وجل-: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم {المائدة:5}، وقد استدل بها الإمام أحمد على حل نكاحهن، وأنها غير منسوخة بآية البقرة؛ لكون سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن.
جاء عن الإمام أحمد في رواية ابنه صالح: قال الله تعالى: "ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن". وقال في سورة المائدة وهي آخر ما أنزل من القرآن: "والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم".
وقد تزوج عثمان -رضي الله عنه- نائلة بنت الفرافصة الكلبية، وهي نصرانية، وأسلمت عنده، وإنما جاز نكاح الكتابية لرجاء إسلامها؛ لأنها آمنت بكتب الأنبياء والرسل في الجملة.
جاء في حاشية العدوي المالكي: قال في الذخيرة: لما شرف أهل الكتاب بالكتاب ونسبتهم إلى المخاطبة من رب الأرباب، أبيح نساؤهم وطعامهم، وفات غيرهم هذا الشرف بحرمانهم. اهـ.
وأما كونها تقول بالتثليث، فلا يمنع شرعا من نكاحها، ولا تخرج بذلك عن كونها كتابية؛ إذ الاعتبار بأصل دينها السماوي، والذي حكم بكفرهم بقولهم بهذا التثليث هو الذي أباح نكاح نسائهم في نفس السورة -نعني سورة المائدة- فدل ذلك أنهم مستثنون من عموم المنع من نكاح المشركات.
قال ابن قدامة في المغني بعد ذكر بعض آيات القرآن التي تميز بين أهل الكتاب والمشركين: وسائر آي القرآن يفصل بينهما، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب، وهذا معنى قول سعيد بن جبير و قتادة، ولأن ما احتجوا به عام في كل كافرة، وآيتنا خاصة في حل أهل الكتاب، والخاص يجب تقديمه. اهـ.
فتحصل بهذا أن نكاحك من هذه المرأة جائز، فأحسن عشرتها، وأظهر لها محاسن الإسلام من خلال سلوكك معها، وأكثر من الدعاء لها، فلعل الله -عز وجل- يجعلك سببا لدخولها الإسلام، وفي ذلك من الخير ما فيه، كما ثبت في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي -رضي الله عنه- حين بعثه إلى خيبر: ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا؛ خير لك من أن يكون لك حمر النعم.
واجتهد في أن تحسن تربية بناتك على الخير، وأن يكن على عقيدة وقيم الإسلام، فصلاح الأبناء قرة عين للآباء في الدنيا والآخرة، قال تعالى عن عباده الصالحين: والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما {الفرقان:74}.
نقل ابن كثير في تفسيره عن الحسن البصري ـ وسئل عن هذه الآية ـ فقال: أن يري الله العبد المسلم من زوجته، ومن أخيه، ومن حميمه طاعة الله، لا والله، ما شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا، أو ولد ولد، أو أخا، أو حميما مطيعا لله عز وجل. اهـ.
والله أعلم.